


الله
قال تعالى:( وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ ) [الأنعام:3]
فالله مشتق من أله يأله إلهة, فأصل الاسم الإله فحذفت الهمزة وأدغمت اللام الأولى في الثانية وجوبا فقيل: الله, ومن أقوى الأدلة عليه قوله تعالى: وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ [الأنعام: 3] مع قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ [الزخرف: 84]
ومعناه: ذو الألوهية التي لا تنبغي إلا له, ومعنى أله يأله إلهة عبد يعبد عبادة، فالله المألوه أي المعبود ولهذا الاسم خصائص لا يحصيها إلا الله عز وجل, وقيل إنه هو الاسم الأعظم (2)
وهو علم على ذاته تبارك وتعالى وكل الأسماء الحسنى تضاف إليه كما قال تعالى: وَلِلّهِ الأَسْمَآءُ الْحُسْنَى [الأعراف:180]وقال تعالى: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [طه:8] ألا ترى أنك تقول الرحمن من أسماء الله تعالى والرحيم من أسماء الله ونحو ذلك, ولا تقول الله من أسماء الرحمن, وقال النبي: ((إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة)) (1) واختلفوا في كونه مشتقا أو لا, ذهب الخليل وسيبويه وجماعة من أئمة اللغة والشافعي والخطابي وإمام الحرمين ومن وافقهم إلى عدم اشتقاقه لأن الألف واللام فيه لازمة فتقول يا الله ولا تقول يا الرحمن, فلولا أنه من أصل الكلمة لما جاز إدخال حرف النداء على الألف واللام وقال آخرون إنه مشتق (3)
وقال السعدي: الإله هو الجامع لجميع صفات الكمال ونعوت الجلال، فقد دخل في هذا الاسم جميع الأسماء الحسنى، ولهذا كان القول الصحيح إن الله أصله الإله وأن اسم الله هو الجامع لجميع الأسماء الحسنى والصفات العلى.
الرحمن الرحيم
قال تعالى: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة: 163].
(الرحمن الرحيم) اسمان مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة, ورحمن أشد مبالغة من رحيم فالرحمن يدل على الرحمة العامة كما قال تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] والرحيم يدل على الرحمة الخاصة بالمؤمنين كما قال تعالى: وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [الأحزاب:47] ذكره ابن جرير بسنده عن العزرمي بمعناه وفي الدعاء المأثور ((رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما)) (1) , والظاهر المفهوم من نصوص الكتاب والسنة أن اسمه الرحمن يدل على الصفة الذاتية من حيث اتصافه تعالى بالرحمة, واسمه الرحيم يدل على الصفة الفعلية من حيث إيصاله الرحمة إلى المرحوم, فلهذا قال تعالى: وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا[الأحزاب:43] إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة:117] ولم يأت قط إنه بهم رحمن, ووصف نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بأنه رؤوف رحيم فقال تعالى: حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ
الملِكُ
قال تعالى: فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون: 116].
وقوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر: 54، 55].
قال ابن جرير رحمه الله تعالى: (المـَلِك: الذي لا ملك فوقه ولا شيء إلا دونه) (1) .
وقال ابن كثير رحمه الله تعالى: (وهو الله الذي لا إله إلا هو الملك أي: المالك لجميع الأشياء المتصرف فيها بلا مبالغة ولا مدافعة) (2) .
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: (إن من أسمائه: (الملك)، ومعناه الملك الحقيقي ثابت له – سبحانه – بكل وجه، وهذه الصفات تستلزم سائر صفات الكمال. إذ من المحال ثبوت الملك الحقيقي التام لمن ليس له حياة ولا قدرة، ولا إرادة ولا سمع ولا بصر ولا كلام ولا فعل اختياري يقوم به، وكيف يوصف بالملك من لا يأمر ولا ينهى؛ ولا يثيب ولا يعاقب؛ ولا يعطي ولا يمنع؛ ولا يعز ولا يذل؛ ولا يهين ولا يكرم؛ ولا ينعم ولا ينتقم؛ ولا يخفض ولا يرفع، ولا يرسل الرسل إلى أقطار مملكته، ولا يتقدم إلى عبيده بأوامره ونواهيه؟ فأي ملك في الحقيقة لمن عدم ذلك؟
وبهذا يتبين أن المعطلين لأسمائه وصفاته: جعلوا مماليكه أكمل منه، ويأنف أحدهم أن يقال في أمره وملكه ما يقوله هو في ربه.
فصفة ملكه الحق مستلزمة لوجود ما لا يتم التصرف إلا به، والكل منه – سبحانه – فلم يتوقف كمال ملكه على غيره، فإن كل ما سواه مسند إليه؛ متوقف في وجوده على مشيئته وخلقه) (3) .
وهذه المعاني التي تضمنها اسم الجلالة (الملك): هي ما يتم به حقيقة الملك، كما ذكر ذلك ابن القيم – رحمه الله تعالى – في موطن آخر حيث يقول: (إن حقيقة الملك: إنما تتم بالعطاء والمنع؛ والإكرام والإهانة؛ والإثابة والعقوبة؛ والغضب والرضا؛ والتولية والعزل؛ وإعزاز من يليق به العز، وإذلال من يليق به الذل. قال تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران: 26-27]، وقال تعالى: يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن: 29].
يغفر ذنبا؛ ويفرج كربا؛ ويكشف غما، وينصر مظلوماً؛ ويأخذ ظالماً، ويفك عانيا؛ ويغني فقيراً، ويجبر كسيراً؛ ويشفي مريضاً، ويقيل عثرة؛ ويستر عورة، ويعز ذليلاً؛ ويذل عزيزاً؛ ويعطي سائلاً، ويذهب بدولة ويأتي بأخرى؛ ويداول الأيام بين الناس؛ ويرفع أقواماً ويضع آخرين، ويسوق المقادير التي قدرها قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف عام إلى مواقيتها؛ فلا يتقدم شيء منها عن وقته ولا يتأخر، بل كل منها قد أحصاه كما أحصاه كتابه؛ وجرى به قلمه؛ ونفذ فيه حكمه؛ وسبق به علمه، فهو المتصرف في الممالك كلها وحده؛ تصرف ملك قادر قاهر، عادل رحيم، تام الملك؛ لا ينازعه في ملكه منازع؛ ولا يعارضه فيه معارض، فتصرفه في المملكة دائر بين العدل والإحسان؛ والحكمة والمصلحة والرحمة؛ فلا يخرج تصرفه عن ذلك) (4) .
القدوس السلام
قال تعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ[الحشر: 23].
قال ابن القيم رحمه الله: القدوس: المنزه من كل شر ونقص وعيب كما قال أهل التفسير هو الطاهر من كل عيب المنزه عما لا يليق به وهذا قول أهل اللغة.
وأصل الكلمة من الطهارة والنزاهة ومنه بيت المقدس لأنه مكان يتطهر فيه من الذنوب ومَنْ أَمَّهُ لا يريد إلا الصلاة فيه رجع من خطيئته كيوم ولدته أمه ومنه سميت الجنة حظيرة القدس لطهارتها من آفات الدنيا ومنه سمي جبريل روح القدس لأنه طاهر من كل عيب ومنه قول الملائكة ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك فقيل المعنى ونقدس أنفسنا لك فعدى باللام وهذا ليس شيء والصواب أن المعنى نقدسك وننزهك عما لا يليق بك هذا قول جمهور أهل التفسير.
وقال ابن جرير: (ونقدس لك ننسبك إلى ما هو من صفاتك من الطهارة من الأدناس ومما أضاف إليك أهل الكفر بك. قال وقال بعضهم: "نعظمك ونمجدك" قاله أبو صالح، وقال مجاهد: "نعظمك ونكبرك") انتهى.
وقال بعضهم ننزهك عن السوء فلا ننسبه إليك واللام فيه على حدها في قوله: رَدِفَ لَكُمْ لأن المعنى تنزيه الله لا تنزيه نفوسهم لأجله قلت ولهذا قرن هذا اللفظ بقولهم نسبح بحمدك فإن التسبيح تنزيه الله سبحانه عن كل سوء، قال ميمون بن مهران: (سبحان الله كلمة يعظم بها الرب ويحاشى بها من السوء).
وقال ابن عباس: (هي تنزيه لله من كل سوء).
وأصل اللفظة من المباعدة من قولهم سبحت في الأرض إذا تباعدت فيها ومنه كل في فلك يسبحون فمن أثنى على الله ونزهه عن السوء فقد سبحه ويقال سبح الله وسبح له وقدسه وقدس له (2)
وقال أيضاً: وأما السلام فإنه الذي سلم من العيوب والنقائص ووصفه بالسلام أبلغ في ذلك من وصفه بالسالم ومن موجبات وصفه بذلك سلامة خلقه من ظلمه لهم فسلم سبحانه من إرادة الظلم والشر ومن التسمية به ومن فعله ومن نسبته إليه فهو السلام من صفات النقص وأفعال النقص وأسماء النقص المسلم لخلقه من الظلم ولهذا وصف سبحانه ليلة القدر بأنها سلام والجنة بأنها دار السلام وتحية أهلها السلام وأثنى على أوليائه بالقول السلام كل ذلك السالم من العيوب (3)
وقال في موضع آخر: ولما كان السلام اسما من أسماء الرب تبارك وتعالى، وهو اسم مصدر في الأصل - كالكلام والعطاء – بمعنى السلامة كان الرب تعالى أحق به من كل ما سواه ; لأنه السالم من كل آفة وعيب ونقص وذم، فإن له الكمال المطلق من جميع الوجوه، وكماله من لوازم ذاته، فلا يكون إلا كذلك، والسلام يتضمن سلامة أفعاله من العبث والظلم وخلاف الحكمة، وسلامة صفاته من مشابهة صفات المخلوقين، وسلامة ذاته من كل نقص وعيب، وسلامة أسمائه من كل ذم، فاسم السلام يتضمن إثبات جميع الكمالات له وسلب جميع النقائص عنه.
وهذا معنى: سبحان الله والحمد لله، ويتضمن إفراده بالألوهية وإفراده بالتعظيم، وهذا معنى: لا إله إلا الله والله أكبر، فانتظم اسم (السلام) الباقيات الصالحات التي يثنى بها على الرب جل جلاله.
ومن بعض تفاصيل ذلك أنه الحي الذي سلمت حياته من الموت والسنة والنوم والتغير، القادر الذي سلمت قدرته من اللغوب والتعب والإعياء والعجز عما يريد، العليم الذي سلم علمه أن يعزب عنه مثقال ذرة أو يغيب عنه معلوم من المعلومات، وكذلك سائر صفاته على هذا.
فرضاه سبحانه سلام أن ينازعه الغضب، وحلمه سلام أن ينازعه الانتقام، وإرادته سلام أن ينازعها الإكراه، وقدرته سلام أن ينازعها العجز ومشيئته سلام أن ينازعها خلاف مقتضاها، وكلامه سلام أن يعرض له كذب أو ظلم، بل تمت كلماته صدقا وعدلا، ووعده سلام أن يلحقه خلف، وهو سلام أن يكون قبله شيء أو بعده شيء أو فوقه شيء أو دونه شيء، بل هو العالي على كل شيء وفوق كل شيء وقبل كل شيء وبعد كل شيء، والمحيط بكل شيء، وعطاؤه ومنعه سلام أن يقع في غير موقعه، ومغفرته سلام أن يبالي بها أو يضيق بذنوب عباده أو تصدر عن عجز عن أخذ حقه كما تكون مغفرة الناس، ورحمته وإحسانه ورأفته وبره وجوده وموالاته لأوليائه وتحببه إليهم وحنانه عليهم وذكره لهم وصلاته عليهم سلام أن يكون لحاجة منه إليهم أو تعزز بهم أو تكثر بهم.
وبالجملة فهو السلام من كل ما ينافي كلامه المقدس بوجه من الوجوه.
وأخطأ كل الخطأ من زعم أنه من أسماء السلوب، فإن السلب المحض لا يتضمن كمالا، بل اسم السلام متضمن للكمال السالم من كل ما يضاده، وإذا لم تظلم هذا الاسم ووفيته معناه وجدته مستلزما لإرسال الرسل، وإنزال الكتب وشرع الشرائع، وثبوت المعاد وحدوث العالم، وثبوت القضاء والقدر، وعلو الرب تعالى على خلقه ورؤيته لأفعالهم وسمعه لأصواتهم واطلاعه على سرائرهم وعلانياتهم، وتفرده بتدبيرهم وتوحده في كماله المقدس عن شريك بوجه من الوجوه فهو السلام الحق من كل وجه كما هو النزيه البريء عن نقائص البشر من كل وجه.
ولما كان سبحانه موصوفا بأن له يدين لم يكن فيهما شمال بل كلتا يديه يمين مباركة، كذلك أسماؤه كلها حسنى وأفعاله كلها خير، وصفاته كلها كمال وقد جعل سبحانه السلام تحية أوليائه في الدنيا وتحيتهم يوم لقائه، ((ولما خلق آدم وكمل خلقه فاستوى قال الله له: اذهب إلى أولئك النفر من الملائكة فاستمع ما يحيونك به فإنها تحيتك وتحية ذريتك من بعدك)) (1) .
وقال تعالى: لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ [الأنعام: 127]، وقال: وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ [يونس: 25].
وقد اختلف في تسمية الجنة بدار السلام، فقيل: السلام هو الله، والجنة داره، وقيل: السلام هو السلامة، والجنة دار السلامة من كل آفة وعيب ونقص، وقيل: سميت دار السلام ; لأن تحيتهم فيها سلام ولا تنافي بين هذه المعاني كلها.
وأما قول المسلم: السلام عليكم، فهو إخبار للمسلم عليه بسلامته من غيلة المسلم وغشه ومكره ومكروه يناله منه، فيرد الراد عليه مثل ذلك أي: فعل الله ذلك بك وأحله عليك (4) .
المؤمن
قال تعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ[الحشر: 23].
معنى هذا الاسم الكريم في حق الله تعالى:
أولاً: تعلقه بمعنى ... (المصدق): ومن معانيه في حق الله – عز وجل – ما يلي:
1- أنه يصدق نفسه بتوحيده وصفاته، كما قال عز من قائل: شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ[آل عمران: 18].
فقد شهد سبحانه لنفسه بالوحدانية، وهذه الشهادة أعظم شهادة: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً [الأنعام: 19]، فليس فوق شهادة الله شهادة، فهي أعظم من شهادة ملائكته، ورسله، وأنبيائه، ومخلوقاته له بالشهادة.
2- تصديق الله رسله وأنبياءه وأتباعهم، فمن ذلك ما أنزله الله من الآيات البينات التي دلت على صدقهم، ومن ذلك ما يظهره على أيدي المؤمنين، ومنها: ما يريه أعداءه من نصرة المؤمنين، فقد يرى الكفرة الملائكة تقاتل مع المؤمنين، ومنها: أن الكفرة قد يدعون الله أن ينصر المحق، فينصر الله المؤمنين، وغير ذلك مما يصدق به رسله وأتباعهم. ومن ذلك: إيقاع العذاب بالمجرمين والطغاة، أعداء الرسل فإن وقوع العذاب بهم تصديق من الله – عز وجل – لرسله.
3- تصديق الله عباده المؤمنين في يوم الدين، فالله يسأل الناس في يوم القيامة، ويصدق المؤمنين بإيمانهم، ويكذب الكفرة والمجرمين، فيشهد عليهم أعضاءهم، فتشهد. ويصدق المؤمنين ما وعدهم به من الثواب، ومصدق ما أوعدهم من العقاب (1) .
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: (المصدق الذي يصدق الصادقين بما يقيم له من شواهد صدقهم، فهو الذي صدق رسله وأنبياءه فيما بلغوا عنه؛ وشهد لهم بأنهم صادقون بالدلائل التي دل بها على صدقهم – قضاء وخلقاً – فإنه سبحانه أخبر وخبره الصدق؛ وقوله الحق: أنه لابد أن يري العباد من الآيات الأفقية والنفسية ما يبين لهم أن الوحي الذي بلغته رسله، فقال تعالى:سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت: 53]، أي: القرآن، فإنه هو المتقدم في قوله: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ [فصلت: 52].
ثم قال: أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت: 53]، فشهد سبحانه لرسوله بقوله أن ما جاء به حق، ووعده أن يرى العباد من آياته الخلقية ما يشهد بذلك أيضاً، ثم ذكر ما هو أعظم من ذلك وأجل؛ شهادته – سبحانه – على كل شيء) (2) .
ويقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: (المؤمن: الذي أثنى على نفسه بصفات الكمال، وبكمال الجلال، والجمال الذي أرسل رسله وأنزل كتبه بالآيات والبراهين، وصدق رسله بكل آية وبرهان، ويدل على صدقهم وصحة ما جاءوا به) (3) .
ثانياً: تعلقه بالمعنى... المشتق من (الأمان): وفيه من المعاني ما يلي:
1- أنه الذي يؤمن خلقه من ظلمه وقد ذكر هذا المعنى ابن جرير في تفسيره وقال: (قال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما (المؤمن) أي: أمن خلقه من أن يظلمهم) (4) .
2- أنه الذي يهب عباده المؤمنين الأمن في الدنيا بالطمأنينة والأنس الذي يجدونه في قلوبهم بفعل الإيمان به سبحانه وتوحيده.
3- أنه الذي يؤمن خوف عبده الذي لجأ إليه بصدق في كشف كربته وتأمين خوفه. يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: (والمضطر إذا صدق في الاضطرار إليه: وجده رحيماً مغيثاً، والخائف إذا صدق في اللجوء إليه: وجده مؤمناً من الخوف) (5) .
4- أنه الذي يؤمن عباده المنقادين لشرعه بما يشرع لهم من الأحكام والحدود التي يأمنون فيها على دينهم، وأنفسهم، وعقولهم، وأعراضهم، وأموالهم سواء على مستوى الفرد، أو الأسرة، أو المجتمع بحيث يعيش الجميع في أمن وسلام في ظل أحكام الله – عز وجل – والتي هي أثر من آثار اسمه (السلام المؤمن).
5- أنه الذي يؤمن عباده يوم الفزع الأكبر من مخاوف يوم القيامة ومن عذاب النار، قال الله تعالى عن عباده المؤمنين: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ [الأنبياء: 101-103]، وقال سبحانه عن أثر الإيمان في تحقيق الأمن في الدنيا والآخرة: الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ [الأنعام: 82] (6) .
6- أنه الذي يؤمن عباده المؤمنين عند نزول الموت حال الاحتضار بأن يسمعوا تطمين ملائكة الرحمة لهم وتبشيرهم بالجنة، وتأمين خوفهم وحزنهم، قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ [فصلت: 30-32].
7- أنه الذي يؤمن لجميع عباده، بل جميع خلقه، مؤمنهم وكافرهم، إنسهم وجنهم، كل ما يأمن بقاء حياتهم إلى الأجل الذي أجل لهم بتوفير رزقهم ودفع الغوائل عنهم.
المهيمن
قال تعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ[الحشر: 23].
المهيمن (سبحانه) الرقيب الحافظ لكل شيء الخاضع لسلطانه كل شيء، والمهيمن: القائم على خلقه، الشهيد عليهم (1) .
والحق (سبحانه) مهيمن على مخلوقاته أي مطلع وشاهد على كل شيء لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر فهو مطلع على خفايا الأمور، وخبايا الصدور، أحاط بكل شيء علماً.
قال تعالى: أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ [الرعد: 33].
وقال تعالى: إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء [آل عمران: 5].
فهو سبحانه مهيمن على مخلوقاته، فلا يختل شيء منها ولا يخرج عما رسمه لها، يحفظها ويرعاها بقدرته.
مليك على عرش السماء مهيمن | لعزته تعنو الوجوه وتسجد |
وقال آخر:
في قبضة الحق هذا الكون أجمعه | جل المهيمن إن أعطى وإن منعا | |
قد سبحت باسمه الأشياء عارفة | بأن ذكر اسمه أمن لمن فزعا | |
وملكه واسع تطويه قدرته | من يشاء ينفذ من أقطاره رجعا | |
جل المهيمن رباً لا شريك له | وجل إن لم يهب شيئاً وإن وهبا | |
ما شاء كان وما في الكون خافية | تخفى على علمه بدءاً ومنقلباً | |
إنا إليه أنبنا خاشعين له | وجاعلين له من ذكره سبباً " | |
فلا شيء في ملكه أو عن إرادته | بمستطيع خروجاً أينما ذهبا |
فالمهيمن اسم لمن كان موصوفاً بمجموع صفات ثلاث: أحدها العلم بأحوال الشيء، والثاني: القدرة التامة على تحصيل مصالح ذلك الشيء، والثالث: المواظبة على تحصيل تلك المصالح، فالجامع لهذه الصفات اسمه المهيمن، ولا تجتمع تلك الصفات إلا لله سبحانه وتعالى.
قال الشاعر:
يا من يرى مد البعوض جناحه | في ظلمة الليل البهيم الأليل | |
ويرى مناط عروقها في لحمها | والمخ في تلك العظام النحل | |
آجالها محتومة أرزاقها | مقسومة بقضا وإن لم يسأل |
ولم يذكر هذا الاسم الجليل في القرآن الكريم إلا مرة واحدة، قال تعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ [الحشر: 23].
وقد ورد مرة ثانية صفة للقرآن الكريم في قوله تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ [المائدة: 48].
وقد فسر المهيمن هنا بالشاهد أي شاهداً عليه، كذلك روي عن ابن عباس –رضي الله عنهما- وروي عنه من وجه آخر أنه قال: المهيمن الأمين فكأنه قال: مصدقاً لما بين يديه من الكتاب وأميناً عليه، والتفسيران متقاربان.
العزيز
قال تعالى: رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ [ص: 66].
العزيز من العزة أي القوة والغلبة، وهو من الشيء العزيز أي النادر الذي يصعب وجود مثله، وهو أيضاً بمعنى الممتنع، والخطير الذي يقل وجوده، وتشتد الحاجة إليه ويصعب الوصول إليه (1) .
قال الراغب الأصفهاني: العزة حالة مانعة للإنسان من أن يغلب من قولهم أرض عزاز أي صلبة، قال تعالى: أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا [النساء: 139] (2) ، وتعزز اللحم اشتد وعز كأنه حصل في عزاز يصعب الوصول إليه، والعزيز الذي يقهر ولا يقهر قال تعالى: إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [النساء: 139]، سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ [العنكبوت: 26].
فـ (سبحانه) عزيز أي غالب لا يغلب، قاهر لا يقهر، وهو عزيز جليل وهو عزيز قوي شديد، وهو عزيز أي لا مثل له ولا نظير، وهو عزيز تشتد الحاجة إليه، ويصعب الوصول إليه. قال ابن القيم في نونيته المشهورة:
وهو العزيز فلن يرام جنابه | أنى يرام جناب ذي سلطان | |
وهو العزيز القاهر الغلاب لم | يغلبه شيء هذه صفتان | |
وهو العزيز بقوة هي وصفه | فالعز حينئذ ثلاث معان | |
وهي التي كملت له سبحانه | من كل وجه عادم النقصان |
فالعزة لها ثلاثة معان، وكلها كاملة لله عز وجل:
1- عزة القوة الدال عليها من أسمائه القوي المتين، وهي وصفه العظيم الذي لا تنسب إليه قوة المخلوقات وإن عظمت.
2- عزة الامتناع، فإنه هو الغني بذاته، فلا يحتاج إلى أحد ولا يبلغ العباد ضره فيضرونه، ولا نفعه فينفعونه، بل هو الضار النافع المعطي المانع.
3- عزة القهر والغلبة لكل الكائنات، فهي كلها مقهورة لله خاضعة لعظمته منقادة لإرادته، فجميع نواصي الخلق بيده، لا يتحرك منها متحرك ولا يتصرف منها متصرف إلا بحوله وقوته وإذنه، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن لا حول ولا قوة إلا به. فمن قوته واقتداره أنه خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، وأنه خلق الخلق ثم يميتهم ثم يحييهم ثم إليه يرجعون (3) . (5)
وعن عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما؛ أنهما كانا يقولان في السعي بين الصفا والمروة: ((رب اغفر وارحم، وتجاوز عمَّا تعلم؛ إنك أنت الأعزُّ الأكرم)) (4) .
... فثبت بذلك أنَّ (الأعَزَّ) من أسماء الله الثابتة بالسنة؛ فهذا مما لا يقال بالرأي.
الجبار
قال تعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ[الحشر: 23].
قال الطبري: الجبار يعني المصلح أمور خلقه، المصرفهم فيما فيه صلاحهم (1) وقال قتادة: جبر خلقه على ما يشاء من أمره.
وقال الخطابي: الجبار هو الذي جبر الخلق على ما أراد من أمره ونهيه يقال جبره السلطان وأجبره بالألف.
ويقال: هو الذي جبر مفاقر الخلق وكفاهم أسباب المعاش والرزق.
ويقال: بل الجبار العالي فوق خلقه من قولهم: تجبر النبات إذا علا واكتهل ويقال للنخلة التي لا تنالها اليد طولاً الجبارة (2) .
وقال الشوكاني: الجبار جبروت الله عظمته، والعرب تسمي الملك: الجبار (3) .
وقال السعدي: (الجبار) هو بمعنى العلي الأعلى، وبمعنى القهار، وبمعنى الرؤوف الجابر للقلوب المنكسرة، وللضعيف العاجز، ولمن لاذ به ولجأ إليه (4) .
قلت: وهو ما نظمه ابن القيم في النونية:
وكذلك الجبار من أوصافه | والجبر في أوصافه قسمان | |
جبر الضعيف وكل قلب قد غدا | ذا كسرة فالجبر منه دان | |
والثاني جبر القهر بالعز الذي | لا ينبغي لسواه من إنسان | |
وله مسمى ثالث وهو العلو | فليس يدنو منه من إنسان | |
من قولهم جبارة للنخلة الـ | عليا التي فاتت لكل بنان (5) |
فيكون معنى الجبار على وجوه:
1- الجبار هو العالي على خلقه وفعال من أبنية المبالغة.
2- الجبار هو المصلح للأمور من جبر الكسر إذا أصلحه وجبر الفقير إذا أغناه.
3- الجبار هو القاهر خلقه على ما أراد من أمر أو نهي (6) . كما قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ[ق: 45] أي لست بالذي تجبر هؤلاء على الهدى ولم تكلف بذلك.
وعلى المعنى الأول يكون من صفات الذات وعلى المعنى الثاني والثالث يكون من صفات الفعل.
المتكبر
سمى الله سبحانه وتعالى نفسه بـ(المتكبر) في آية واحدة من القرآن الكريم في قوله الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ [الحشر: 23]، وأما اسمه (الكبير) فقد ورد في ستة مواضع من القرآن الكريم منها قوله تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ [الرعد: 9]، وقوله: وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [الحج: 62]، وقد جاء مقترناً باسمه (العلي) و(المتعال).
... قال قتادة: المتكبر أي تكبر عن كل شر (1) .
وقيل المتكبر هو الذي تكبر عن ظلم عباده، وهو يرجع إلى الأول (2) .
وقال الخطابي: هو المتعالي عن صفات الخلق، ويقال: هو الذي يتكبر على عتاة خلقه إذا نازعوه العظمة (3) .
وقال القرطبي: المتكبر الذي تكبر بربوبيته فلا شيء مثله وقيل: المتكبر عن كل سوء، المتعظم عما لا يليق به من صفات الحدث والذم وأصل الكبر والكبرياء الامتناع وقلة الانقياد. قال حمد بن ثور:
عفت مثل ما يعفو الفصيل فأصبحت | بها كبرياء الصعب وهي ذلول (4) |
وقال عبد الله النسفي: هو البليغ الكبرياء والعظمة (5) .
وأما ما قاله العلماء في معنى اسمه (الكبير) فإنه مشابه لما ذكرنا من معنى (المتكبر).
قال ابن جرير: الكبير يعني العظيم الذي كل شيء دونه ولا شيء أعظم منه (6) .
وقال الخطابي: الكبير هو الموصوف بالجلال وكبر الشأن فصغر دون جلاله كل كبير، ويقال: هو الذي كبر عن شبه المخلوقين (7) .
وعلى هذا يكون معنى (المتكبر) و(الكبير):
1- الذي تكبر عن كل سوء وشر وظلم.
2- الذي تكبر وتعالى عن صفات الخلق فلا شيء مثله.
3- الذي كبر وعظم فكل شيء دون جلاله صغير وحقير.
4- الذي له الكبرياء في السماوات والأرض أي السلطان والعظمة.
الخالق البارئ المصوِّر
قال تعالى: هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الحشر: 24].
قال الخطابي: (-الخالق- هو المبدع للخلق المخترع له على غير مثال سابق، قال سبحانه: هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ [فاطر: 3]. فأما في نعوت الآدميين فمعنى الخلق: التقدير كقوله عز وجل: أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ [آل عمران: 49] (1) اهـ.
والخلاق: من أفعال المبالغة من الخالق تدل على كثرة خلق الله تعالى وإيجاده، فكم يحصل في اللحظة الواحدة من بلايين المخلوقات التي هي أثر من آثار اسمه سبحانه الخلاق: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ [الحجر: 86].
واسمه سبحانه (الخالق والخلاق) مما أقرت به جميع الأمم مؤمنهم وكافرهم، وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في معرض رده على من قال: أن اسم (الخالق) يثبت له سبحانه مجازاً.
(إنه ليس في المعلومات أظهر من كون الله: (خالقاً)، ولهذا أقرت به جميع الأمم – مؤمنهم وكافرهم – ولظهور ذلك؛ وكون العلم به بديهياً فطرياً؛ احتج الله به على من أشرك به في عبادته فقال: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزمر: 38]، في غير موضع من كتابه.
فعلم أن كونه سبحانه (خالقاً): من أظهر شيء عند العقول، فكيف يكون الخبر عنه بذلك مجازاً؛ وهو أصل كل حقيقة، فجميع الحقائق تنتهي إلى خلقه وإيجاده، فهو الذي خلق وهو الذي علم، كما قال تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق: 1-5].
فجميع الموجودات انتهت إلى خلقه وتعليمه، فكيف يكون كونه خالقاً عالماً مجازاً؟ وإذا كان كونه خالقاً عالماً مجازاً: لم يبق له فعل حقيقة ولا اسم حقيقة، فصارت أفعاله كلها مجازات، وأسماؤه الحسنى كلها مجازات... إلى قوله: فإن جميع أهل الإسلام متفقون على أن الله خالق حقيقة لا مجازاً، بل وعباد الأصنام وجميع الملل) (2) .
وقد ذكر رحمه الله تعالى اسمه سبحانه (الخلاق) في نونيته حيث قال:
(وكذاك يشهد أنه سبحانه | الخلاق باعث هذه الأبدان) (3) |
(4)
(الباري) أي المنشئ للأعيان من العدم إلى الوجود والبرء هو الفري وهو التنفيذ وإبراز ما قدره وقرره إلى الوجود, وليس كل من قدر شيئا ورتبه يقدر على تنفيذه وإيجاده سوى الله عز وجل كما قيل: ولأنت تفري ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يفري أي أنت تنفذ ما خلقت أي قدرت بخلاف غيرك فإنه لا يستطيع كل ما يريد فالخلق التقدير, والفري التنفيذ.
(المصور) الممثل للمخلوقات بالعلامات التي يتميز بعضها عن بعض, أي الذي ينفذ ما يريد إيجاده على الصفة التي يريدها, يقال هذه صورة الأمر أو مثاله فأولا يكون خلقا ثم برءا ثم تصويرا, وهذه الثلاثة الأسماء التي في سورة الحشر في خاتمتها: هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى [الحشر:24] قال ابن كثير رحمه الله تعالى: أي الذي إذا أراد شيئا قال له كن فيكون على الصفة التي يريد والصورة التي يختار كقوله تعالى: فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ [الانفطار:8]
الغفَّار الغفور العفوُّ
قال تعالى: رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ [ص: 66].
(الغفر، والغفران) في اللغة: الستر، وكل شيء سترته فقد غفرته، والمغفرة من الله –عز وجل- ستره للذنوب، وعفوه عنها بفضله ورحمته، والغفار هو الذي أظهر الجميل وستر القبيح في الدنيا، وتجاوز عن عقوبته في الآخرة، وهو الذي يغفر الذنوب وإن كانت كبيرة، ويسترها وإن كانت كثيرة، والغفور والستور يقال غفرت الشيء اغفره غفراً إذا سترته، والله عز وجل غفار غفور لذنوب عباده أي يسترها ويتجاوز عنها؛ لأنه إذا سترها فقد صفح عنها وعفا وتجاوز، وغفار وغفور من أبنية المبالغة فالله عز وجل غفار غفور؛ لأنه يفعل بعباده ذلك مرة بعد مرة إلى ما لا يحصى فهو من أوصاف المبالغة في الفعل، وليس من أوصاف المبالغة في الذات (1) .
(فالغفَّار، والغفور) من أسماء الله -عز وجل- وهما من أبنية المبالغة ومعناهما الساتر لذنوب عباده وعيوبهم، والمتجاوز عن خطاياهم وذنوبهم. وأصل الغفر الستر والتغطية. فالله عز وجل يغفر ذنوب عباده مرة بعد مرة فهو غفور سبحانه.
قال ابن القيم:
وهو الغفور فلو أتى بقربها | من غير شرك بل من العصيان | |
لاقاه بالغفران ملء قربها | سبحانه هو واسع الإحسان |
وقد ورد اسم (الغفار) في القرآن الكريم خمس مرات منها:
قوله تعالى: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا [نوح: 10]...
أما اسم (الغفور) فقد ورد في القرآن الكريم أكثر من تسعين مرة، منها:
قال تعالى: يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [آل عمران: 129].
إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [الأنعام: 165].
إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ [فاطر: 28].
و(العفو): اسم من أسماء الله الحسنى، ومعنى العفو الذي يمحو السيئات، ويتجاوز عن المعاصي، وهو قريب من اسم الغفور ولكنه أبلغ منه، لأن الغفران ينبئ عن الستر، والعفو ينبئ عن المحو، والمحو أبلغ من الستر.
فالعفو في حق الله عز وجل عبارة عن إزالة آثار الذنوب بالكلية، فيمحوها من ديوان الكرام الكاتبين، ولا يطالبه بها يوم القيامة، وينسيها من قلوبهم، كيلا يخجلوا عند تذكرها، ويثبت مكان كل سيئة حسنة، قال تعالى: فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ [الفرقان: 70].
وقد جاء ذكر العفو في آيات كثيرة من القرآن الكريم، منها قوله تعالى: إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا [النساء: 149].
ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ [الحج: 60]
القهار
قال تعالى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [الأنعام: 18].
وقوله تعالى: قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [الرعد: 16].
قال ابن جرير رحمه الله تعالى: (القاهر) المذلل المستعبد خلقه العالي عليهم (1) .
وقال ابن كثير رحمه الله: (وهو القاهر فوق عباده) أي: هو الذي خضعت له الرقاب وذلت له الجبابرة، وعنت له الوجوه وقهر كل شيء، ودانت له الخلائق وتواضعت لعظمته وجلاله وكبريائه وعلوه وقدرته على الأشياء، واستكانت وتضاءلت بين يديه وتحت قهره وحكمه) (2) .
ويقول ابن القيم – رحمه الله تعالى – في نونيته:
وكذلك القهار من أوصافه | فالخلق مقهورون بالسلطان | |
لو لم يكن حياً عزيزاً قادراً | ما كان من قهر ولا سلطان (3) |
ويقول أيضاً: (لا يكون القهار إلا واحداً، إذ لو كان معه كفؤٌ له فإن لم يقهره لم يكن قهاراً على الإطلاق، وإن قهره لم يكن كفؤاً، فكان القهار واحداً) (4) .
ويقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: (القهار لجميع العالم العلوي والسفلي، القهار لكل شيء الذي خضعت له المخلوقات وذلك لعزته وقوته وكمال اقتداره) (5) .
وقال الخطابي: (-القهار- هو الذي قهر الجبابرة من عتاة خلقه بالعقوبة، وقهر الخلق كلهم بالموت).
الوهاب
قال تعالى: رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران: 8].
قال ابن جرير في تفسير قوله إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ [ص: 35] يعني إنك أنت المعطي عبادك التوفيق والسداد للثبات على دينك وتصديق كتابك ورسلك.
وقال: الوهاب لمن يشاء من خلقه، ما يشاء من ملك وسلطان ونبوة.
وقال: إنك وهاب ما تشاء لمن تشاء، بيدك خزائن كل شيء تفتح من ذلك ما أردت لمن أردت (1) .
وقال الخطابي: الوهاب هو الذي يجود بالعطاء عن ظهر يد من غير استثابة (2) أي من غير طلب للثواب من أحد.
وقال الحليمي: (الوهاب) وهو: المتفضل بالعطايا المنعم بها لا عن استحقاق عليه (3) .
وقال النسفي: الوهاب الكثير المواهب المصيب بها مواقعها الذي يقسمها على ما تقتضيه حكمته (4) :
وقال ابن القيم في (النونية):
وكذلك الوهاب من أسمائه | فانظر مواهبه مدى الأزمان | |
أهل السموات العلى والأرض عن | تلك المواهب ليس ينفكان |
الرزاق
قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات: 58].
والرزاق والرازق اسمان من أسماء الله الحسنى، وهما مشتقان من مادة الرزق، والرزق هو كل ما ينتفع به.
والرزق رزقان: رزق الأجسام بالأطعمة ونحوها، ورزق الأرواح بالعلوم والمعارف وهو أشرف الرزقين لأن ثمرته باقية وبه حياة الأبد، ورزق الأبدان إلى مدة قريبة الأمد.
وكذلك الرزاق من أسمائه | والرزق من أفعاله نوعان | |
رزق على يد عبده ورسوله | نوعان أيضاً ذان معروفان | |
رزق القلوب العلم والإيمان والـــــ | رزق المعد لهذه الأبدان | |
هذا هو الرزق الحلال وربنا | رزاقه والفضل للمنان | |
والثاني سوق القوت للأعضاء في | تلك المجاري سوقه بوزان | |
هذا يكون من الحلال كما يكون | من الحرام كلاهما رزقان | |
والرب رزاقه بهذا الاعتبـــــ | ــــــــــار وليس بالإطلاق دون بيان |
قال ابن القيم:
فرزق الله لعباده نوعان: عام وخاص:
1- الرزق العام: هو ما يوصله لجميع المخلوقات مما تحتاجه في معاشها وقيامها، فسهل لها الأرزاق، ودبرها في أجسامها، وساق إلى كل عضو صغير وكبير ما يحتاجه من القوت، وهذا عام للبر والفاجر والمسلم والكافر، بل للآدميين والجن والحيوانات كلها.
وعام أيضاً من وجه آخر في حق المكلفين، فإنه قد يكون من الحلال الذي لا تبعة على العبد فيه، وقد يكون من الحرام ويسمى رزقاً ونعمة بهذا الاعتبار، ويقال (رزق الله) سواء ارتزق من حلال أم من حرام وهو مطلق رزق.
2- الرزق الخاص: وهو الرزق النافع المستمر نفعه في الدنيا والآخرة، وهو الذي على يد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو أيضاً قسمان:
أ- رزق القلوب بالعلم والإيمان وحقائق ذلك، فإن القلوب مفتقرة غاية الافتقار إلى أن تكون عالمة بالحق مريدة له، متعبدة لله. وبذلك يحصل غناها ويزول فقرها.
فالرزق الخاص هو ما خص به المؤمنون، ويشمل الأمرين السابقين. وينبغي للعبد إذا دعا ربه في حصول الرزق أن يستحضر بقلبه هذين الأمرين، فمعنى (اللهم ارزقني) أي ما يصلح به قلبي من العلم والهدى والمعرفة والإيمان الثابت والعمل الصالح والخلق الحسن، وما يصلح به بدني من الرزق الحلال الهني الذي لا صعوبة فيه، ولا تبعة تعتريه (1) .
قال الشاعر:
يا خالق الرزق للعباد وللو | حش وللطير أنت رزاق | |
فكل شيء إليك متجه | وكل قلب إليك مشتاق | |
وأعظم الرزق نور معرفة | له وراء الضلوع إشراق |
وقد ورد اسم (الرزاق) مرة واحدة في القرآن الكريم في سورة الذاريات. في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات: 58].
أما (الرازق) فقد ورد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله هو المسعِّر، القابض، الباسط، الرازق...)).
الفتاح
ورد الاسم مفرداً مرة واحدة في قوله تعالى: قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ [سبأ: 26].
وورد بصيغة الجمع مرة واحدة أيضاً في قوله عز وجل: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ [الأعراف: 89].
... قال قتادة رحمه الله: افتح بيننا وبين قومنا بالحق، اقض بيننا وبين قومنا بالحق (1) .
وقال ابن جرير رحمه الله في تفسير الآية السابقة: احكم بيننا وبينهم بحكمك الحق الذي لا جور فيه ولا حيف ولا ظلم، ولكنه عدل وحق، وأنت خير الفاتحين يعني: خير الحاكمين (2) .
وقال في موضع آخر: وهو الفتاح العليم، القاضي العليم بالقضاء بين خلقه، لأنه لا تخفى عنه خافية ولا يحتاج إلى شهود تعرفه المحق من المبطل (3) .
وقال الزجاج: والله تعالى ذكره فتح بين الحق والباطل فأوضح الحق وبينه وأدحض الباطل وأبطله، فهو الفتاح (4) .
وقال الخطابي رحمه الله: الفتاح هو الحاكم بين عباده. وقال: وقد يكون معنى الفتاح أيضاً الذي يفتح أبواب الرزق والرحمة لعباده، ويفتح المنغلق عليهم من أمورهم وأسبابهم ويفتح قلوبهم، وعيون بصائرهم، ليبصروا الحق، ويكون الفاتح أيضاً بمعنى الناصر كقوله سبحانه: إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ [الأنفال: 19] (5) .
وبنحوه قال السعدي (6) ، وهو ما نظمه ابن القيم في (النونية):
وكذلك الفتاح من أسمائه | والفتح في أوصافه أمران | |
فتح بحكم وهو شرع إلهنا | والفتح بالأقدار فتح ثان | |
والرب فتاح بذين كليهما | عدلاً وإحساناً من الرحمن |
على هذا يكون معنى الاسم:
1- الفتاح: الحاكم الذي يقضي بين عباده بالحق والعدل، بأحكامه الشرعية والقدرية.
2- أنه يفتح لهم أبواب الرحمة والرزق وما انغلق عليهم من الأمور.
3- أنه بمعنى الناصر لعباده المؤمنين، وللمظلوم على الظالم، وهذا يعود إلى الأول.
العليم
قال تعالى:إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الأنفال:75].
وقال سبحانه: قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [البقرة: 32].
قال ابن جرير: إنك أنت يا ربنا العليم من غير تعليم بجميع ما قد كان وما هو كائن، والعالم للغيوب دون جميع خلقك.
وقال: إن الله ذو علم بكل ما أخفته صدور خلقه من إيمان وكفر، وحق وباطل، وخير وشر، وما تستجنه مما لم تجنه بعد (1) .
وقال الخطابي: هو العالم بالسرائر والخفيات التي لا يدركها علم الخلق، كقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [لقمان: 23]. وجاء على بناء فعيل للمبالغة في وصفه بكمال العلم ولذلك قال سبحانه: وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ [يوسف: 76].
قال ابن منظور رحمه الله: فهو الله العالم بما كان وما يكون قبل كونه، وبما يكون ولما يكن من قبل أن يكون، لم يزل عالماً ولا يزال عالماً بما كان وما يكون ولا يخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، أحاط علمه بجميع الأشياء باطنها وظاهرها، دقيقها وجليلها، على أتم الإمكان (2) .
وقال السعدي: وهو الذي أحاط علمه بالظواهر والبواطن والإسرار والإعلان، وبالواجبات والمستحيلات والممكنات، وبالعالم العلوي والسفلي، وبالماضي والحاضر والمستقبل، فلا يخفى عليه شيء من الأشياء (3) .
وهو ما نظمه ابن القيم رحمه الله في (النونية):
وهو العليم أحاط علما بالذي | في الكون من سر ومن إعلان | |
وبكل شيء علمه سبحانه | فهو المحيط وليس ذا نسيان | |
وكذاك يعلم ما يكون غداً وما | قد كان والموجود في ذا الآن | |
وكذاك أمر لم يكن لو كان كيـــ | ـــف يكون ذاك الأمر ذا إمكان |
القابض الباسط
قال تعالى: وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة: 245].
القابض اسم الفاعل من قبض يقبض فهو قابض، (والله يقبض ويبسط) أي يقتر على من يشاء ويوسع على من يشاء على حسب ما يرى من المصلحة لعباده. فالقبض ههنا: التقتير والتضييق. والبسط التوسعة في الرزق والإكثار منه. فالله عز وجل القابض الباسط يقتر على من يشاء ويوسع على من يشاء.
والباسط أيضاً: باسط الشيء الذي ليس بمفروش يبسطه ويفرشه كما بسط الله الأرض للأنام وبث فيها أقواتها (1) .
فالقبض هو التضييق والبسط هو التوسيع والنشر فالله يقبض ويبسط أي يسلب تارة ويعطي تارة أو يسلب تارة أو يسلب قوماً ويعطي قوماً أو يجمع مرة ويفرق أخرى أو يميت ويحيي (2) .
ويحسن أن يقرن بين هذين الاسمين وأن يوصل بينهما ليكون ذلك أنبأ عن القدرة وأدل على الحكمة. كقوله تعالى: وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة: 245].
وإذا ذكرت القابض مفرداً عن الباسط كأنك قد قصرت بالصفة على المنع والحرمان، وإذا وصلت أحدهما بالآخر فقد جمعت بين الصفتين منبئاً عن وجود الحكمة منهما (3) .
فالله سبحانه وتعالى يقبض بعدله وحكمته، ويبسط برحمته ولطفه.
قال ابن القيم:
هو قابض هو باسط هو خافض | هو رافع بالعدل والإحسان |
والله عز وجل يقبض الأرواح عن الأشباح عند الممات، ويبسط الأرواح في الأجساد عند الإحياء. ويقبض الصدقات من الأغنياء ويبسط الأرزاق للضعفاء، ويقبض القلوب فيضيقها. ويبسطها بما يتقربه إليها من بره ولطفه وجماله. فهو القابض للأرزاق والأرواح والنفوس الباسط للأرزاق والرحمة والقلوب.
وقد ورد هذان الاسمان في الحديث النبوي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى هو الخالق، القابض الباسط الرزاق المسعر)) (4) .
والله عز وجل يبسط الأرزاق ويبسطها بمقتضى حكمته ولصالح العباد.
الخفض في اللغة ضد الرفع، والخفض الانكسار واللِّين قال تعالى:
﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً (24)﴾ (سورة الإسراء)
والانخفاض: الانحطاط، وتوصف به الواقعة قال تعالى:﴿إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3)﴾
الناس يتمايزون بِمقاييس أرضية، مقاييس المال، القوة، والذكاء، وتحصيل العلم، والوجاهة، وغيرها من الأمور، فإذا وقعت الواقعة، تبدَّلت هذه المقاييس، وتحكّمت في الخلق مقاييس رب العالمين، يُقاس الإنسان بعد الموت بِقدر اِستقامته وطاعته لله -عز وجل -، وإحسانه للخلق. فلذلك تنقلب المقاييس فجأةً، فالذي كان في القمم ربما صار في الحضيض، والذي كان في الحضيض ربما صار في القمم.
الخفض من صفات الواقعة، والواقعة اسم من أسماء يوم القيامة. أي أن الواقعة تخفض أقواماً بِمعاصيهم فَيَصيرون إلى النار، وترفع أقواماً بطاعاتهم فيدخلون الجنة.
أيها الإخوة:
مادة الخفض وردت في القرآن في سورة الحجر، قال تعالى:
﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)﴾ (سورة الحجر)
ووردت في سورة الشعراء قال تعالى:
﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)﴾ (سورة الشعراء)
هذا الفرق بين الآيتين هل يفيد معنى ثالثاً ؟ واخفض جناحك لِمن اتبعك من المؤمنين وقوله: واخفض جناحك للمؤمنين ؛ فالإنسان يميل إلى جماعته وإلى أتباعه ؛ فإذا مال إليهم، وتعصَّب لهم، وأنكر من سِواهم، واِنحاز اِنحيازاً أعمى إلى من يلوذ به، فهذه نقيصة في الإنسان. فالله سبحانه وتعالى أمر نبيَّه أن يخفض جناحه تارةً لِمن اِتبعه، وتارةً لكل المؤمنين. أما نحن فما علاقتنا بِهاتين الآيتين ؟ يجب أن تحب إخوانك في المسجد، وإذا كنت مؤمناً حقاً فيجب أن تحب كل مؤمن في الأرض، من أيّة جهة كان، وهذا هو الإيمان وهو الذي يليق بالمؤمن.
ووردت في سورة الإسراء: 24 ﴿ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾
ووردت في سورة الشعراء 215 قال تعالى: ﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
ابن الأثير يرى: أن الخافض هو الذي يخفض الجبّارين والفراعنة أيْ: يضعهم ويهينهم، ويخفض كل شيء يريد خفضه - الآن دخلنا في موضوع جديد - الإنسان له كيان مادي له جسم، وله كيان معنوي، الكيان المعنوي يرتفع وينخفض. فَمَثلاً إذا نجح الإنسان، ونال شهادةً عُلياَ، يرتفع مقامه بين الناس. وإذا رسَب، ينخفض. وإذا نجح في عمله، يرتفع. وإذا أخفق، انخفض. وإذا نجح في زواجه، ارتفع. وإذا أخفق، ينخفض، وإذا ظهر صدقه للناس، يعْتَز بِأخلاقه، فإذا ظهر كذبه، ينكمش. وإذا كُشِفت أسراره البيتية ولم تكن على ما يُرام، ينخفِض. فالإنسان بين أن يرتفِع وبين أن ينخفض. لكن صدِّقوا أن الإنسان حينما يرتَفِع بالحق يدخل على قلبه من السرور ما لا يوصف. النجاح مُسعِد في كل شيء. وحينما ينخَفِض ويُكشَف كذبهُ، ويُفْتَضَح في بيته، وتظهر عدم كفاءته، أو حينما يسيء الاختيار، وينال عِقاباً نظير عمله السيء ويصبح قِصةً بين الناس، ينكمش وينخفِض. وقد يأتي على هذا الإنسان من الآلام ومالا يوصف لذلك الإنسان أكثر ما يعيش بِسُمْعَتِه. بل إن العرب حينما ذكروا العِرض، عرَّفوه بأنه مَوْضِع المدح والذم في الإنسان. قد تكون فقيراً لكنك تقيٌّ مرفوع الرأس. قد يكون مريضاً ولكن نظيف الكَفَّين، لا يوجد بِحياته اِنحراف، ولا دَجَل ولا تطاول، ولا يخاف لا لأنه من جِنسٍ آخر وإنما هو من البشر لكن لا يخاف لأنه مستقيم، وما فعل شيئاً خِلاف شرع الله، ولا خِلاف القانون، لذلك أحدُ أسباب العِزة الإحسان وقال تعالى:
﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)﴾
إذا أنت أتقنت عَمَلَك، وأدَّيْت وظيفتك على خير وجهٍ، تشعرُ بِعِزة الإنجاز وعزة الإتقان والتفوُّق. أما إذا أدَّيت عملك بغير إتقان، وكان عملك سيِّئاً وغير مدروس، ويحمل أخطاءً كثيرة، واِكتُشِفت الأخطاء عاتبك الناس، كَمَثَل الذي وَصَف دواءً لِطِفلٍ صغير أوْدى بِحياته، ولما وُوجِه هذا الذي صنع الدواء صار صغيراً ومنكمِشاً، ويتمنى أن تنشقَّ الأرض وتَبْتلَعَه -كما يقول العوام -فالإنسان يَعْتز حينما يُتقِن عمله، ويُؤدي واجِباته، وحينما يكون واضحاً، وتكون سريرَته كَعَلانيَتِه، وخلْوتُه كَجَلْوَتِه، وحياته الخارجية كَحَياته الداخلية، وأسراره كَحَياتِه المُعْلَنة، فالوُضوح يرفع الإنسان. وتشعُر هذا من الواقع حيث يجد الإنسان في بعض الأحيان اِنقباضاً من جراء عَمَلٍ أو كلام بذيء فلما اِنكشف الغطاء وجد حاله قد اِنكمش وما من إنسان إلا ويتمنى أن يرتَفِع. لا أقول الكِبَرْ ؛ وإنما إتقان العمَل يجعلك عزيزاً، فَصِدقك وأمانتك يجعلانك عزيزاً، أحياناً يأتي تَفْتيش مفاجئ على مَحَلِّك ومعملك - المواد الأولية كلها صحيحة وبمواصفات جيدة لا يجدون شيئاً مخالفاً، فيكون الأمر كله على التَّمام، فَتَشعُر بِعِزة ونشْوَة، فكل إنسان يبحث عن شيءٍ اسمه الرِّفْعة.
والله أيها الإخوة، لو أننا أيقَنا أن رِفْعتنا بطاعة الله، وباِستقامتنا. واِنضباطنا لاستقامتنا في حياتنا، إنسان يحْتل منصِباً رفيعاً لكنه جَلَب أبقاراً مصابة بمرض عضال وسَبَّب حالات مرضية شديدة: فهذا لما كشف أمره للسجن مُكَبَّل اليدين وأُدخل قصر العَدْل لِينال جزاءه العادل، فهذه المكانة التي كانت لهذا الشخص اِنخفضت، لذلك الذل لا يُحتَمل وكذا الإهانة والانكماش أتساءل أحياناً إن هذا الذي يأكل مالاً حراماً، ويَغُشُّ المسلمين في غِذائهم، وهذا الذي يستَوْرِد لُحوماً للكلاب ويَبيعَها للبشر، وهذا الذي يضع أصبِغة البِلاط في سكا كر الأطفال، وفي المواد الغِذائية فَماذا يلاقي هذا الذي يُكْشَف اختِلاسُه ؟ سَيَنْعَدِم ويصير لا شيء.
شعور الإنسان بالاستقامة والرِّفعة والنظافة والخلْفِيات الواضحة هذا شعور لا يوصَف ؛ وهو شعورٌ يَرْقى بالإنسان وما منا واحد إلا ويتمنى أن يكون أمام الناس نظيفاً، ورافِع الرأس. فالخافض في أسماء الله كما يقول ابن الأثير: " هو الذي يضع الجبارين والطغاة ويُهِينُهم " وسُبحان من قهر عِباده بِالموت. الله عزّ وجل يخفِض الجبابرة، وكقاعدة عامة أقول: الإنسان إذا كان صُعوده سريعاً وحاداً فسَيَكون انخِفاضه مُريعاً، الإنسان إذا تكبِّر بِغير الحق وصعد صعوداً حاداً ومُفاجِئاً، فالله جل جلاله يجعله عِبرة لكل من اِعتبر، ويَخْفِضه ويذِله ويهينه ؛ هناك عذاب شديد، وهناك عذاب مُهين. بِرَبِّكم هل يوجد منّا واحد يتمنى الفضيحة والذُل والإهانة ؟ أقول لكم هذه الحقيقة وأتمنى أن تكون واضحة عندكم، أيّة خِيانة على الإطلاق، منذ خلق الله آدم وإلى يوم القِيامة، لابُدَّ من أن تُفْتَضح والدليل: قوله تعالى
﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)﴾ (سورة يوسف)
والخائن حينما يُفْتَضح، لا يُفْتَضح بِذكاء البشَر بل بِتَقْدير خالق البشر. فإذا الإنسان أيْقن بأن الله لن يسمح لإنسان أن يغُشَّ الناس إلى أمدٍ طويل، ولا أن يغُشَّ مجموع الناس إلى أمَدٍ قصير، عِنْدئذٍ يستقيم على أمر الله ؛ لأن الفضيحة، والانكشاف وسَرْدَ الأخبار غير المُريحة، هذا شيء لا يُطيقه الإنسان ؛ لكن كيف عِلاجُه ؟ لا تفعل شيئاً تستحي منه، ولا تفعل شيئاً تضطر أن تعتذِر منه، قبل أن تفعل شيئاً، فكِّر جيِّداً، وتأمَّل ملِياً، وعُدَّ للآلاف قبل أن تأخذ هذا المبلغ لعلك وقبل أن تدخل إلى هذا البيت، وليس في البيت إلا امرأة ؛ سل نفسك لعلك تُسأل لماذا دخلْت البيت ؟ وأنت تعلم أن الزوج غير موجود في هذا البيت
فالإنسان حينما يتسرَّع ويتحرَّك بلا نور، وبلا منهج، وبلا أحكام شرعيَّة، يقع في شرِّ عمَلِه، وينخَفِض والله هو الذي يخفُضه ؛ والله من أسمائه الخافض أحياناً الإنسان يكون بأعلى درجة ؛ ثم ينخفض أحد علماء المسلمين في أمريكا أحد أكبر القساوِسة. وهذا الرجل بعد حين، كُشِفت له فضيحة أخلاقية فَصار يبكي، فالإنسان حينما تُكتَشف عثراته وسقطاته، ينكمش وكأن الله خفضه. على كل حال هذا من الفطرة. مثَلاً لو فُقِد قَلَم غالي الثمن بالصَف، فَمَنَع المُدرِّس خروج الطلاب، وفَتَّش الطلاب واحداً واحداً ؛ فإذا القلَم عند أحدهم، فَقَبل أن يُعاقبه، وقبل أن يضربه، وقبل أن يستَدعي والده، و قبل أن يفصِله ستة أيام، ماذا يشعر هذا الطفل ؟ يشعر بِألم وخِزي، فَشُعور الخِزي والعار لا يُحِتَمل عِلاجُه أن تستقيم، وأن تعمل عملاً لا تستحي منه.
مرةً سألوا ألف زوجٍ ؛ لماذا لا تخون زوجتك ؟ فجاءت الإجابات كثيرة جداً ومتنوِّعة. صُنِّفت هذه الإجابات في زمرٍ أخلاقية، وكان إجابة أخفض صِنْفٍ: لا أستطيع لأنها تعمل معه وإجابة الذي أعلى منه: لا أحتمل الإحساس بالخِيانة، الإحساس بِالخِيانة ضاغِط، والأرقى: لا أحب الخِيانة، وواحد يحبها ولكن لا يحتمل وخز الضمير، الأول لا يحب الخِيانة والأخير لا يستطيع أن يخون زوجته فعندما يتحرك الإنسان حركة واضحة ونظيفة، يشعر بِراحة، وهذه الراحة لا تُقَدَّر بِثَمنٍ. قد تجد شخصاً يلبس أغلى الأثواب، ويركب أجمل المَرْكبات، ويسكن في أفْسَح القصور والبيوت، ومع ذلك فهو من داخله مُنهار ؛ لأن نفسه تُحاسِبه حِساباً عسيراً. يعاني الانقِباض، والكآبة، والشعور بالذم ومُرَكَّب النقص وهذا كله من الأعمال الخسيسة والدنيئة التي لا تُرضي الله. ففطرة الإنسان مُوَلَّفَة - بالتعبير الفني - مع الإيمان فإن حادَ عن الإيمان وعن منهج الله عذَّبتْه فطرته، مثَلاً: مرْكبة حديثة جداً مُصمَّمة للزفت، لو ركِبتها في الوَعْر، وفي طرق جبلية فيها وهداة ومنعرجات وفيها أتربة ورمل، تشعر بِتَعَبٍ شديد وبِقَلَقٍ، وتشعر أن هذه المركبة ليست لهذا الطريق. ونفسك البشرية مصممة لمنهج الله، ومصممة لتكون على مستوى الشرع ؛ فإذا حِدت عن الشرع، تعثَّرت نفسك وشعرت بالكآبة والضيق وما إلى ذلك.
وقيل: الخافض الذي يخفض بالإذلال من تعاظم وتكبَّر، ضربت مثلاً فقلت: كيل اللبن يحتمل خمسة أكيال ماء ويصبح شراباً لذيذاً ويهدئ النفس ويشعر الإنسان بِراحة بعد شربه، كيلو لبَن يتحمل خمسة أكيال ماء، ولا يتحمل نقطة نفْط واحدة أبداً فهذه القطرة الواحدة تُفسِده أما خمسة كيلو ماء فتُطَيِّبُه، كذلك الإيمان: فذرَّة كِبَر واحدة تتناقض مع العبودية، من صفات المؤمنين الأساسية التواضع لله، ترى المؤمن عزيز إلى أقصى درجة ورافع الرأس إلى أقصى درجة ؛ ولكنه أمام الله ذليل ؛ ويُبالِغ في التذلل أمام عَتَبَة ربه، ويُبالغ في رفع رأسه شامِخاً أمام أعداء الله، لذلك وصْف الله المؤمنين في كتابه بقوله: ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ (سورة المائدة)
بِقَدْر ما هو متواضع ومتذلل بينه وبين الله، يكون بينه وبين الخلق عزيز النفس.
الخافض: الذي يخفض بالإذلال من تَعاظَم وتكبَّر، وشمخ بِأنفِه وتجَبَّر، يخفضُ أقواماً ويخفض الباطل:
قوله تعالى ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً (81)﴾ (سورة الإسراء)
لو أننا تتبعنا تاريخ النظريات الوضعية التي اِبتُدِعت خِلاف منهج الله، فهل نجد نظرية بقِيَت شامخة إلى ما لا نهاية ؟ وهل هناك نظرية إلا ونزلت في الوَحْل وسقطت ؟ ولاكَتْها الألسن؟ وخاضت فيها الأقلام ؟ والأدلة أمامنا كثيرة، والتاريخ الذي بين أيدينا، سبعون عاماً في اِعتزاز بالباطل، واِعتزاز بالإلحاد، ثم أصبح هذا الإلحاد خُرافَةً، وأصبح المجتمع المُلحِد في مؤخرة الشعوب على الإطلاق: قوله تعالى ﴿ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ﴾
فالله- عز وجل -من أسمائه الخافض، فهو الذي يخفض بالإذلال من تعاظم وتكبَّر، وشمخ بِأنفِه وتجَبَّر، العَرَب في الأندلس أسَّسوا أكبر حضارة بالعالم ؛ فلما اِلتفتوا إلى القِيان وشرِبوا الخمور، واِستمعوا إلى المعازف، ومالوا إلى اللهو والتَّرَف، أُخرجوا من هذه البلاد وكان آخر ملوكهم يبكي، وهو يخرج من قصرِه في قُرطبة قالت له أمه عائشة: ابكِ مثلَ النساء مُلكاً مُضاعاً لم تُحافظ عليه مثل الرجال. فالله يخفض العصاة المتكبرين والمتجبرين .
وقيل الخافض: الواضع لِمن عصاه، والمُذِل لِمن غضِب عليه، ومُسْقِط الدرجات لِمن يستَحِق ذلك. يَخْفِض الكفار بالإشقاء، ويخفض أعداءه بالإبعاد، عدوٌ يخفِضه، ومتجبر يخفض وطاغِيَة يخفض ومستعلٍ يخفض، ويقول: أنا، ونَحن، ولِي، وعِندي، أربع كلمات مهلِكات، قال تعالى عن إبليس:
﴿قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (75)﴾. (سورة ص)
فأهلكه الله،
﴿قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33)﴾ (سورة النمل )
قالها قوم بَلْقيس فأذلهم الله عز وجل. ﴿أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ﴾ (سورة الزخرف)
قالها فِرعون فَغَرِق: ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ (سورة القصص: الآية 78)
قالها قارون فَدَمَّره الله عز وجل ؛ فالله خافض يخفض أعداءه، ويخفض المتجبرين ويخفض الطغاة، ويخفض الظالمين، ويخفض الباطل كَفِكْرة وتسقط، وتُصبح في الوَحْل ولا يعتَدُّ بها أحد، ولا يُلقي لها بالاً، بعد أن كانت متألِّقة، يخفض الكفار بالإسقاط وأعداءه بالإبعاد والذل.
وقيل: هو الذي خفض أهل الكفر بِعِزِّه، وخفض أهل الكِبْر بِجلاله، وخفض أهل الزور بِإظهار تكذيبهم، والكاذب لابُدَّ من أن يفضحه الله ؛ وحينما يفضحه، ينسى الحليب الذي رضعه من أُمِّه. والكذب شرب و لا سيما الكذب في البيع والشراء، تجد الكاذب يُقسِم بالأيمان المُغلَّظة، أن كُلفة هذه البضاعة يفوق هذا السِّعر، ثم تُكشَف الأوراق فإذا رأس ماله قليل جداً، وقد أقسم أيماناً كاذبة ؛ فهذا الإنسان سَقَط، سقط من عَيْن أهل الفضل والكمال.
ويخفض الله عز وجل كل خارجٍ عن شريعته مهما كان غنِياً بالمال، أو عزيزاً بين الرِّجال. وقد ذكر العلماء أن الله الخافض يخفض من قَصُرت مُشاهداته على المحسوسات، يعني ما آمن بالغيب، وإنما آمن بالأشياء المادية، والذي يراه بعينه يؤمن به، أما الآخرة فما رآها ولذلك هو يُنكِرها، وكذلك عِقاب الله ما رآه فأنكره. فقال: يخفض من قَصُرت مُشاهداته على المحسوسات، وقصَر هِمَّته على ما تفعله البهائم من شراب وأكل ونكاح، وقد خفضه إلى أسفل سافلين، ولا يفعل ذلك إلا الله رب العالمين فهو الخافض والرافع.
أنت كمُؤمن، ما حظك من هذا الاسم ؟ قال: من أراد أن ينال حظاً من اسم الخافض فَعَليه أن يخفض نفسه قبل أن يخفِضه الله، اِخفِضها طواعيةً لله وتواضعاً لله،
انظر إلى الأكحال وهي حجارة لانَت فصار مَقَرُّها في الأَعْيُن
تواضع قبل أن يضعك الله، فالتواضع عِبادة والتكبر نقيض العِبادة ؛ لذلك من أراد أن ينال حظاً من هذا الاسم فَعَليْه أن يخفض نفسه بالتواضع، فَيَراها أقل من جميع العباد، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد دخل عليه رجل فارتعدت مفاصله فهوَّن عليه:
((عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَكَلَّمَهُ فَجَعَلَ تُرْعَدُ فَرَائِصُهُ فَقَالَ لَهُ هَوِّنْ عَلَيْكَ فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ ))
وكلما تواضعت، رفعك الله. وهذه علاقة عكسية فكلما تكبِّرت، خفضَك الله، والعالم الحقيقي متواضِع، والإنسان الذي يُعتد به متواضع. لذلك ورد في الحديث القدسي:
(( أحب ثلاثاً وحبي لِثلاث أشد: أحب الطائعين وحبي للشاب الطائع أشد. أحب المتواضعين وحبي للغني المتواضع أشد. أحب الكرماء وحبي للفقير الكريم أشد. وأبغض ثلاثاً وبغضي لِثلاثٍ أشد: أبغض العصاة وبغضي للشيخ العاصي أشد. أبغض المتكبرين وبغضي للفقير المتكبر أشد. أبغض البخلاء وبغضي للغني البخيل أشد))
فالسخاء حسن لكنه في الفقراء أحسن. والصبر حسن ولكنه في الفقراء أحسن. والورع حسن لكنه في العلماء أحسن. والعدل حسن لكنه في الأمراء أحسن. والحياء حسن لكنه في النساء أحسن. المرأة ألزم ما يلزمها الحياء، والعالِم يلزمه الوَرَع، والحاكم يلزمه العدْل، والغني يلزمه السخاء، والفقير يلزمه الصبر، والشباب تلزمه التوبة ؛ وما من شيء أحب إلى الله من شابٍ تائب، ومتى سلِم العبد من شبهة الكِبْر فكل شيء بعد ذلك يزول ويهون.
(( لو لم تُذنبوا لَخِفتُ عليكم ما هو أكبر. فما هو الذي أكبر من الذنب ؟ العُجب العُجب ))
(( ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كِبْر ))
كلما نزلت متواضِعاً إلى الله، رفعك الله. أنا لا أعتَقد أن على وجه الأرض إنساناً أشد تواضُعاً من رسول الله عليه الصلاة والسلام ؛ كما أنني لا أعتقِد أنه يوجد من أعزه الله ورُفِع ذِكره وشأنه كَرَسول الله صلى الله عليه وسلم، فَبِالقَدْر الذي تتواضع لله ترتفع إلى مراتب العُلو، ألم يقل الله عز وجل: ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)﴾ (سورة الشرح)
فإذا ذُكِر الله الآن ؛ ذُكِر معه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالتطبيق الأول: أن تخفض نفسك بالتواضع، والتذلل، والانصِياع، ولِين الجانب، ولين العريكة، وأن ترى نفسك واحداً من الناس، لا أن تراها فوقهم. كُن واحداً منهم، تكن سيِّدهم. أما إذا جعلت نفسك فوقهم، يجعلونك في الحضيض. كُن واحداً منهم وبِأخلاقك الفاضلة يرفعونك إلى الأوج. سيدنا عمر- رضي الله عنه -أراد أن يُعَيِّن والياً فقال: أُريد رجلاً، إن كان أميراً، بدا وكأنه واحد من قومه، وإن كان ليس بِأمير عليهم، بدا وكأنه أمير. غيرةً وحِرصاً على مصلحة قومه.
التطبيق الثاني: أخفِضْ إبليس بِعَدم الإصغاء لوسوسته. فإذا أصغى الإنسان إلى وسْوَسَة الشيطان يكون قد رفعه. أما إذا أعرض عنه، وسفَّه وسوسته، وابتعد عنه، ولعنه وأعرض عن كل ما يُلقيه في روعه يكون قد وضعه وانتصر على نفسه. فالتطبيق الثاني لاسم الخافض أن تخفِض إبليس وأعوانَه وكلَّ وسوسته، وألا تُعَظم أهل المعصية، وأن لا تحترِمهم احتِراماً بالِغاً، فهل يجوز أن يشرب الخمر إنسانٌ وتستقبله وتُعانِقه، وتُرَحِّب به، وتثني على ذكائه وعِلمه وخِبرته، وتجعلُه في صدر المجلس، وهو تارك صلاة وشارب خَمْرٍ ؛ بهذا تكون قد فعلت شيئاً لا يُرضي الله، ينبغي أن تُخْفِضه وأن تُشْعِره أنه عاصٍ لله –عز وجل -، إلاّ في حالة واحدة وهي أن تتوقع منه الخير فَتَتَألف قلبه بِالتكريم. فالإنسان مُقَصِّر لكنه فيه خير، ولا يكره الحق، وليس بعيداً عن الحق، فَعَلى فرض أنه مقَصِّر ورَحَّبْت فيه دون أن تُشعِر الناس أنه على حق، فصار إكرامك هادِفاً ويسمى إكرام التأليف، وهو مسموح به بِشكل استثنائي. هذا وهناك التذلل والانخفاض للوالدين، قال تعالى: ﴿ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (17)﴾ (الإسراء)
كتب اليوم لي أخ كريم في درس مسجد الطاووسية قِصة عن أحد أقرِبائه، وطلب مني أن أُلقِيَها على الناس لما فيها من العِبرة البالِغة ؛ فقد كان له قريبٌ عاقٌ لِوالِديه، وجاء مرةً لأبنائه بالموز فقالت له ابنته: إن جدتي أكلت موزةً ؛ فَمِن شدة بُخلِه دفع أمه من أول الدرج إلى آخره، وبَيَّنت له أمه أنها أكلت شيئاً فَضُل عن ابنته. وماتت بعد ذلك بِشهرين. وعندما وافاه الأجل َبَقِيَ ميِّتاً في بيته أربعة أشهر، دخلوا عليه بِالمُعَقِّمات وأصبحت الجرذان تأكله. شيء لا يوصف فالله أذله إذلالاً ليس بعده إذلال. فالإنسان ربما يكون عاقاً لِوالِديه ولِمن رباه، أو عاقاً لإنسان كبير في السن ؛
((عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ مِنْ إِجْلالِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ))
من أدعية هذا الاسم: إلهي أنت الخافض للجبارين بِقَهرِك، المُذِلّ للمتكبرين بِجبَروتك، المُتعالي العلي الكبير، المتجلي بِنصرك، وأنت نِعم المولى ونِعم النصير.
ننتقل الآن إلى اسم: الرافع ؛ فالجبابرة والطغاة والمتكبرون والظُلاَّم والعُتاة ؛ هؤلاء يخفضهم الله عز وجل. وأنت يا أخي الَمُؤمن اخفض نفسك تواضعاً لله، واخفض أهل المعصية والفجور واخفض الشيطان وأعوانه، هذا من عمل المؤمن قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)﴾(سورة التحريم)
أنت تخطئ عندما تحترم إنساناً غارقاً بِالمعاصي أمام أولادك - الطفل بريء - ينظر أمام أبيه يُبَجِّل ويُكَرِّم أهل الفجور ؛ فَبِهذا العمل كأنك أوْحيت لابنك أن هذه ليست معاصي، والدليل التكريم المبالغ به لهؤلاء، فَيَجب أن يكون لك موقف سليم
الرفع يُقال تارةً في الأجسام الموضوعة إذا أعْلَيتها عن مقَرِّها نحو قوله تعالى:
﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ﴾(سورة النساء: الآية 154)
الشيء المادي إذا رفعته نقول فيه: رفع، وقوله تعالى:
﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا﴾ (سورة الرعد2)
ويُقال الرفع للبناء إذا طوَّلته قال تعالى:
﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)﴾ (سورة البقرة)
قال تعالى:
﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (36)﴾ (سورة النور)
أن ترفع: أيْ: تعلو، وإذا عظَّمْتَ إنساناً ونَوَّهْت بِفضائله وذكرت شمائله فيُقال:
﴿ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾
فالمعاني متعددة ؛ معنى مادي:
﴿ وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمْ الطُّورَ ﴾
وقوله:
﴿ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ﴾
ومعنى الإطالة:
﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ ﴾
ومعنى رِفعة الشأن والتنويه بالذِّكر:
﴿ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾
هذه في المنزلة. والنبي صلى الله عليه وسلم قال:
(( أَنزلوا الناس منازلهم ))
فإذا استقبلت أخاً مؤمناً، وأثنيت عليه فلا يوجد مانِع لهذا العمل من باب التشجيع له وتنويهاً بِفضْله. والإنسان المغرور والحسود هو الذي يُعَتّم على الآخرين. فإذا تفَوّق أخ مسلم ونال شهادة عليا فعليك أن تُنَوِّه به، وهذا له أيادٍ بيضاء، وخدمات جُلّى للمسلمين، ومتفَوِّق في اِختصاص مُعَيّن، هذا إذا عَرَّفت به، وذكرت فضائله، يكون من باب تأليف القلوب، النبي صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك:
((عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ وَأَشَدُّهُمْ فِي أَمْرِ اللَّهِ عُمَرُ وَأَصْدَقُهُمْ حَيَاءً عُثْمَانُ وَأَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَأَفْرَضُهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَعْلَمُهُمْ بِالْحَلالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ ابْنُ جَبَلٍ أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينًا وَإِنَّ أَمِينَ هَذِهِ الأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ ))
وقال لِخالد: أنت سَيْف الله - وهذا في روايات عند البخاري وغيره - وقال: أنت يا أبا عُبيدة أمين هذه الأمة وأنت يا بن الزبير حَوارِيُّ هذه الأمة وأنت يا عمر لو كان نبي بعدي لَكنتَ أنت، وأنت يا أبا بكرٍ ما سُؤْتني قط، وما يوجد من صحابي إلا نوَّه النبي بِفضْله وبيَّن شأنه ؛ لأنّ هذا من أخلاق النبوة. فإذا كان لأخٍ لك إنجاز جيِّد، وتأليف جيد ؛ وَنَوَّهت بِفضْله ؛ فسَيَشعرُ بِقيمَتِه عندك، وأنه محترم ؛ وهذا الفِعل من فضائل المؤمنين، قال تعالى:
﴿وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)﴾ (سورة الزخرف)
والله جل جلاله في كل كتابه الكريم لم يخاطب النبي باسمه قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ﴾ (سورة التحريم)
وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ﴾ (سورة المائدة)
ما خاطب الله النبي إلا بِلَقَب النبوة أو الرسالة ؛ لكن ذكر اسمه في الخبر، ففي الخبر " محمد رسول الله "، وفي الخطاب قال تعالى: ﴿يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ﴾ (سورة المائدة116)
وقال أيضاً:﴿قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي﴾ (سورة الأعراف144)
وقال أيضاً:﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ﴾ (سورة مريم12)
خاطب الأنبياء بِأسمائهم ؛ لكن النبي -صلى الله عليه وسلم -ما خاطبه الله إلا بِألقاب النبوة والرسالة، وهذا تكريم من الله تعالى لِنَبِيّنا محمد -صلى الله عليه وسلم -، قال تعالى:
﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)﴾ (سورة الشرح)
لما عَرَجَ الله بالنبي إلى السماء، وأراه من آياته الكُبرى، فهذا أعلى رفْع للنبي، قال تعالى:
﴿لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)﴾ (سورة النجم)
والرافع: هو الذي يرفع الأولياء وينصرهم على الأعداء. ويرفع الصالحين إلى أعلى عِلِيين، ويرفع الحق، ويرفع المؤمنين بالإسعاد، ويرفع الأولياء بِالتقريب والنصر، وكل من تولاه حقاً وعدْلاً، والرافع من تجلّى باسمه الرافع فَرَفَع السماء بِغير عَمَد. إذاً الرفع مادي ومعنوي ؛ يرفع السماء بِغير عمد، ويرفع ذِكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعندما يستقيم الإنسان ويُخلِص لله عز وجل، تصبح له مكانة كبيرة في المجتمع، تفوق مرتبته العِلمية واختصاصه وحِرفَته، فالعلماء قديماً كان أحدهم نجاراً، والآخر دولاتي، والآن أصبح لهم مكان رفيع في المجتمع، فقد كان الشيخ بدر الدين الحسني إذا غَضِب يغضب لِغَضْبته مِليون إنسان لا يسألونه فيم غَضِب.
والرافع من تجلّى باسمه الرافع فرَفَع السماوات بِغير عَمَدٍ ورفع الغَمام على مَتْن الهواء ورفع الطيور في الفضاء، قال تعالى:
﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)﴾ (سورة الملك)
والرافع: هو الذي رفع مقام الأولياء في الحياة ؛ بِخُضوع القلوب لهم، وما أخلص عبْد لله، إلا جعل قلوب المؤمنين تهْفو إليه بِالموَدَّة والرحمة ؛ فهذا رفع، فهناك إنسان لا أحد يلتفت له، لا تتمنى دعْوته، ولا الجلوس معه منبوذ، ملعون، مُبْعَدْ، أما المؤمن فبِإخلاصه لله وإقباله إليه واستقامته على أمره يخلق الله مَوَدَّة في قلوب الآخرين له. إذا أحب الله عبداً أوْدع في قلوب العباد محبته، وهذا معنى قوله تعالى:
﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي﴾ (سورة طه)
﴿ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي ﴾ أيْ أحبك الخلق بِحُبي لك، هذا الرافع.
أقسِم بالله ولا أحنث إن شاء الله، ما من أحد يطيع الله كما أراد، ويُخلص لله- عز وجل - كما يحب إلا رفع الله ذكِره ؛ ورفَعه مادِّياً ومعنَوِياً، وفي كل شؤون حياته وهو من إكرام الله ومُكافَأته بعض الردود الإلهية الكريمة على إخلاص المؤمنين واستقامتهم، فالرافع: المُدَبِّر لشؤون خلقه ؛ يرفع من تولاه إلى أُفُق المقربين، كما يخفض من عصاه إلى أسفل سافِلين. يرفع شأن المستضعفين. لما خافت أم موسى عليه السلام أن يُذبح ابنها موسى وألْقَته في اليَم بأمر الله عز وجل فالتقطه آل فرعون، ما من طفلٍ كان يولد في بني إسرائيل إلا وذُبِح، إلا هذا الطفل فقد أراد فرعون أن يقتل كل أبناء بني إسرائيل، لأنه رأى في الرؤيا أن طفلاً منهم سَيَقضي على مُلْكِه، و الطفل الذي سَيَقضي على مُلْكِه رباه في قصره وهو لا يشعر، قال تعالى:
﴿فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8)﴾ (سورة القصص)
واللام هنا لام المآل وليست لام التعليل.
فالرافع يرفع من تولاه إلى أُفق المقربين، كما يخفض من عصاه إلى أسفل السافلين ويرفع شأن المستضعفين، قال تعالى:
﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5)﴾ (سورة القصص)
كم من مستضعف، علاَ شأنه، وتألّق نجمه، وارتفع مكانه ؟ وكم من فقير صار غَنِيا ؟ وكم من مستضعفٍ صار قوِياً ؟ وكم من مهمَلٍ صار ذا شأنٍ ؟.
مادة الرفع وردت في القرآن الكريم في مواضِع عِدة ؛ ومن أبرز هذه المواضع قوله تعالى:
﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾ (سورة البقرة)
وقوله:
﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)﴾ (سورة الأنعام)
وقوله:
﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)﴾ (سورة الأنعام)
فهناك مجند، وهناك رئيس أركان، وهناك ممرض، وهناك معلِّم بِقَرية وهناك أستاذ جامعة، كما يوجد بائع مُتَجوِّل وهناك رئيس غرفة تجارة ؛ ورفع بعضكم فوق بعض درجات. فإذا رفعك الله تعالى فيجب عليك أن تشكره على هذه الرِّفعة، وينبغي أن تُوَظّفها في طاعة الله. وقال تعالى:
﴿وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)﴾ (سورة الأنعام)
وقال:
﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ(55)﴾ (سورة آل عمران)
وقال تعالى:
﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً (57)﴾ (سورة مريم)
أيها الإخوة:
إذا تجلّى الله إلى قلب المؤمن بِنور اسمه الرافع رفَعَ ذلك النور هذا المؤمن إلى العُلا الأعلى فَصَار مُرْتَفِعاً في الأكوان، وإذا تجلّى الله إلى قلب المؤمن بِنور اسمه الرافع جعله مُتَألِّقاً كالكوكب الدُرِيّ، وهذا الإنسان المؤمن لا ينظر إلى ما في أيدي الناس ؛ بل يرفع هِمَّته إلى الله عز وجل.
أيها الإخوة:
اسم الرافع: من ألْصق الأسماء بِحياة المؤمن لأنَّ حياة المؤمن بعد أن يمتحِنه الله تُصْبِح سلسلة إكرامات، و المؤمن كما قلت في دروس سابقة يمُرُّ بأطوارٍ ثلاثة: - طَوْر يُؤَدَّبُ فيه على تقصيره وبعض مُخالفاته، - وطَوْرٍ يُبْتلى فيه ويُمتحن ؛ فإذا نجح في الطورين وأظن هذا في الآخرة: ألم يؤذ موسى عليه السلام بعد طور التأديب والامتحان لقد أوذي في طور الرسالة من قبل البشر … فالحياة الطيبة في الآخرة … استقرّت حياته على التكريم وهذا معنى قول الله تعالى:
﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)﴾
فاسم الرافع ينال من فضله تعالى كل مؤمن طائع لله، ومُخْلِص له، في التقرب إليه. وأيّةُ آية يختص بها النبي عليه الصلاة والسلام قال بعض العلماء: إن لكل مؤمن منها نصيباً بِقدْر إخلاصه وطاعته ؛ فقوله تعالى:
﴿ ورفعنا لك ذكرك(4) ﴾(سورة الشرح)
من معانيها: أن كل مؤمن يقتدي بِرسول الله، ويقتفي أثره، ويتبع سنته، يناله شيء من ما نال النبي من رِفْعة شأنٍ، وعلُو قدْر وسيرة العلماء العاملين الصالحين الصادقين والمخلصين في التاريخ الإسلامي تُؤكّد هذه الحقيقة.
من أدعية هذا الاسم: إلهي تجَلَّيت باسمك الرافع ؛ فرَفعْت قدْر أنبيائك وأولِيائك، أظهرت لهم المعجزات، وأبْرَزت لهم الكرامات، فَعَظَّمتهم القلوب، ورفَعْتَ أعمالهم إليك بِالقبول، ورفَعْتَ لهم أرواحك بالوصول، ورفَعتَ هِمَّتهم فَلَم يطلبوا سِواك، لأن عيون أرواحهم تراك، فاجعل لنا أوْفر حظ من نور اسمك الرافع، حتى يُرفع شأننا فَنَرْفع أحبابك.
هذه بعض أدعية اسم الرافع وسَنَنْتقل في درسٍ آخر إلى اسم آخر من أسماء الله الحُسنى. ونرجو ربنا أن نكون عند حُسْن الظن بنا وأن نستحِق أن يرفعنا الله -عز وجل -رَفْعاً مادِياً ومعنوِياً حتى نقطف ثِمار الإيمان الحق الذي هو في الحقيقة التِزام واستِقامة ومؤاثرة.
والحمد لله رب العالمين
أيها الإخوة الكرام، مع اسم جديد من أسماء الله الحسنى، الاسم اليوم ( المعز والمذل)، وكما نوهت في لقاء سابق، وفي درس سابق أن من أسماء الله الحسنى ما ينبغي أن تذكر مَثنى مَثْنى، فالله عز وجل الضارٌّ والنافع المعطي والمانع ـ ـ الرافع والخافض ـ الباسط والقابض ـ ـ المعز والمذل .
أما لماذا ينبغي أن تذكر مَثنى مثنى ؟ لأن الشر المطلق في الكون لا وجود له ، فهو سبحانه يضر لينفع، ويذل ليعز، ويأخذ ليعطي، ويقبض ليبسط، ويخفض ليرفع. ﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ﴾ ( سورة آل عمران الآية: 26 )
لم تأتِ في نهاية الآية بحسب سياقها بيدك الشر والخير، قال:
﴿ بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾ ( سورة آل عمران الآية: 26 )
قد يكون الإذلال خيراً، ونزع الملك خيراً.
كلكم يعلم، وقد ذكرت هذا مراراً، أن في الإنسان دافعاً قوياً إلى الطعام والشراب ليبقى حياً، ولولا هذا الدافع لمات معظم الناس، وفي الإنسان دافع قوي إلى المرأة ليبقى النوع مستمراً، ولولا هذا الدافع لانقرض النوع البشري، لا علاقة لنا بهذين الدافعين في موضوع ( المعز والمذل )، ولكن علاقتنا في الدافع الثالث، الدافع الثالث: له أسماء كثيرة، أعرض عليكم بعضها:
هذا الدافع لا علاقة له بالطعام والشراب، ولا بالجنس، تحب أن تكون متفوقاً، تحب أن تكون عزيزاً، تحب أن تكون محترماً، تحب أن تكون ممن يشار إليهم بالبنان، هذا دافع أودعه الله فينا، ويمكن لهذا الدافع ولأي داع آخر أن يروى ضمن منهج الله، ما حرم الله عليك الطعام والشراب.
﴿ كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾(البقرة 172)
دافع الطعام
حرم عليك لحم الخنزير، وشرب الخمر فقط، وعدد أنواع الطعام المباح لك لا يعد ولا يحصَى، حرم عليك نوعًا واحدًا، لحم الخنزير، وعدد المشروبات العصائر لا يعد ولا يحصَى، حرم عليك الخمر.
دافع الجنس
أما الدافع الثاني فهو دافع الجنس، وما أودع الله فيك شهوة إلا جعل لها قناة نظيفة تسري خلالها، فالميل إلى المرأة يتحقق بالزواج، وفي الزواج ضمان لمستقبل المرأة، تغدو زوجة، ثم تغدو أمًّا، وكل مرحلة تتألق بنوع من الجمال، جمال الزوجة الشابة شيء، وزواج الأم الحنون شيء آخر، وجمال الجدة الحكيمة شيء ثالث، أما حينما تمتهن المرأة الانحراف، ما دام فيها ومضة من جمال تأكل بثدييها، كما تقول العرب، أما إذا زوى جمالها ألقيت في قارعة الطريق كسقط المتاع.
تأكيــد الذات
إذاً: أرادك الله حينما فطرك فطرةً عالية أن تكون عزيزاً ( المعز ) أنه فطرك على أن تحب العز، ( المعز ) فطرك على أن تتضايق من الفضيحة، ( المعز ) فطرك على خوفاً من العار، لو دققت في تصرفاتك مئات التصرفات في اليوم تفعلها أو تتجنبها حفاظاً على مكانتك، أليس كذلك ؟
أضرب لكم مثلاً:
أحد الإخوة الكرام عنده موظف تزوج حديثاً، وسلمه محلا تجاريًّا يبيع بالجملة، قال لي هذا الأخ: شعرت أن البضاعة تنقص، والمال ينقص، إحساس عام، فرجا صديقه أن يأتي إلى المحل في وقت مبكر، ويشتري بمبلغ من المال، وفي المساء يعود إلى المحل ليرجع الذي اشتراه، فنفذ هذا الصديق وصية صديقه، فجاء صباحاً، واشترى بمبلغ معين ، فلما جاء صاحب المحل سأل هذا الموظف ما الذي حدث قبل أن آتي ؟ لم يحدث شيء، هل بعت شيئاً ؟ قال: لا، الساعة الخامسة جاء الذي اشترى الحاجات يريد إرجاعها، يقسم بالله العظيم أنه نظر إلى موظفه فكأن وجهه دم قانٍ من شدة الخجل، لأنه كذب عليه، لوى أن هذا الإنسان مفطور فطرة عالية لما خجل، لماذا تضايق ؟ لماذا كاد يذوب خجلاً، وفرقاً ؟ لأنه مفطور فطرة عالية، طبعاً فصله من العمل، ورُبّ أكلة منعت أكلات، لأنه اختلس أموالا كثيرة، ففصله، وكان له دخل ثابت وجيد، ومتزوج حديثاً، فلما خان الأمانة ألقي على قارعة الطريق، بلا دخل وبلا عمل.
أيها الإخوة، أول معنى من معاني ( المعز ) أن الله فطرك فطرة عالية، لا تحب الفضيحة، لا تحب أن تكون عند الناس مختلساً، ولا زانياً، ولا معتدياً على عرض إنسان، لا تحب أن تكون كذاباً، لا تحب أن تكون منحرفاً، لا تحب أن تكون خائناً، لولا أن الله فطرنا فطرة عالية لما تألمت من النقص.
لكن بالمناسبة، وقد ذكرت هذا كثيراً: الفطرة لا تعني أنك كامل، ولكنها تعني أنك تحب الكمال، لذلك تتألم من الفضيحة أشد الألم، الدليل:
طفل صغير في الصف الأول أعجبه قلم صديقه، وضعه في محفظته، الصديق اشتكى إلى المعلم، المعلم أغلق الباب، وفتش الطلاب، فلما ظهر القلم المسروق من محفظة هذا الطالب بكى بكاءً شديداً، وأصابه ألم لا يوصف، مع أنه لم يتعلم شيئاً.
في أصل فطرة الإنسان حب الكمال، والبعد عن الفضيحة، وإذا تعمقنا أكثر في المخلوقات كلها ألا ترى إلى قطة تطعمها بيدك فتأكلها أمامك، أما إذا خطفتها تفر بها بعيداً، وتأكلها بعيداً عنك، معنى ذلك أنها أدركت أنها ارتكبت عملاً غير صحيح.
هذا الشيء الأول، كيف أن الله أعزك أيها الإنسان، أعطاك منهجًا، وقال لك: لا تكذب.
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(( يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِلَالِ كُلِّهَا إِلَّا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ ))
حينما لا تكذب تبقى رافع الرأس، لا تخشَى شيئاً، قد تكون في المرتبة الدنيا في السلم الاجتماعي، لكن لأنك لا تكذب ترفع رأسك دائماً، ولا تخشَى أحداً، ولا تخشَى الفضيحة، ما عندك شيء أن يفتضح، المؤمن له ميزة، سره كجهره، باطنه كظاهره خلوته كجلوته.
(( قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ ))
لأنك مؤمن مستقيم ما عندك شيء تُفضَح به، أما المنحرفون، الشاردون عن منهج الله فعندهم ألف قضية وقضية يخشون أن
تظهر، الآلام التي تنتابهم خوف الفضيحة تزيد أضعافاً مضاعفة عن اللذائذ التي حصلوا عليها حينما انحرفوا، لذلك يوم القيامة
(سورة المدثر) (فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ(9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ(10)
إذاً الله عز وجل حينما أمرك أن تكون صادقاً أعزك، وحينما أمرك أن تكون أميناً أعزك، وحينما أمرك أن تكون عفيفاً أعزك.
الآن بالأمر، أول فقرة في الدرس بالفطرة، فطرتك فطرة عالية، هذه الفطرة تأبى الفضيحة، تأبى الذل، تأبى الخيانة، تأبى الكذب، وما من إنسان يأخذ مالاً حراماً أو يخون إلا يغطي عمله بغطاء مشروع، أكثر الانحرافات المالية والأخلاقية مغطاة بأعمال، والانحراف الأخلاقي تحت عنوان الفن، والانحراف المالي تحت عنوان أنه شاطر، مثلاً، فالإنسان يغطي انحرافه المالي والجنسي بغطاء مقبول عند المجتمع، إذا أراد أن يأتي بموظفة كي يستمتع بها في عمله يقول لك: المرأة نصف المجتمع، وينبغي أن تعمل، يغطي رغبته بكلام مقبول عند الناس.
أيها الإخوة، أعطاك منهجاً، لو طبقته لكنت عزيزاً، أشهد الله أن عند المؤمن من الراحة النفسية، والعزة ما لو وزع على أهل بلد لكفاهم، من الملك الحقيقي ؟ هو المستقيم، من الذي ينام ملء العين ؟ المستقيم، من الذي لا يخشى الفضيحة ؟ المستقيم، من الذي لا يخشى المساءلة ؟ المستقيم، من الذي لا تأخذه في الله لومة لائم ؟ المستقيم، إذاً أعطاك منهجًا تفصيليًّا
نحن مشكلتنا أيها الإخوة أن فهم الناس للدين فهم محدود، يظن أنه إذا صلى وصام، وحج وزكى كان ديّناً من الطراز الأول، مع أن هذه العبادات الخمس هي خمسة بنود في منهج تقريباً تعداده خمسمئة ألف، كل أمر في القرآن يقتضي الوجوب، أمرك بغض البصر، أمرك ألا تخلو بامرأة، أمرك ألا تصحب الأراذل، أمرك أن تكون واضحاً في علاقاتك
﴾ سورة البقرة الآية: 282 ) ﴿إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ
أمرك أن تغض البصر، أمرك بأوامر كلها ترفع شأنك، إذاً كيف أعزك ؟ أعزك بالفطرة، وأعزك بأمره، قد تجد المؤمن فقيرًا، لا مانع، قد يكون مريضًا، لكنه ينام قرير العين، يلقي الله في قلبه السكينة التي يسعد بها ولو فقَد كل شيء، ويشقى بفقدها ولو ملك كل شيء.
أيها الإخوة، لكن الواقع أن الإنسان يكون حكيماً بعد الذل، حينما تزل قدمه، ويذل، ويضطهد، ويفتضح قد يكون حكيماً، لكن بعد الذل.
حدثني صديق لي أن إنسانًا جاء بآلة تصوير متحركة، وصوِّر هو وزوجته بأوضاع مبتذلة، وكان قد استعار أشرطة من محل أفلام بالخطأ، وضع هذا الفيلم بغلاف لفيلم قد استؤجر من محل تجاري، وردّ الأشرطة، صاحب المحل فتح فوجد شريطًا جديدًا فيه علاقة شائنة مبتذلة بين شاب وشابة، فأجّره، ودار هذا الشريط إلى أن وصل إلى أخ هذا الإنسان الذي اقترف هذه الحماقة، اضطر أن يبيع بيته في الشام، وأن يسافر إلى بلد بعيد كي يسكن هناك خوف العار والفضيحة، فالإنسان مفطور فطرة عالية، لذلك:
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُصَوِّرُونَ ))
أيها الإخوة، حينما يُذل الإنسان يكون حكيماً، لكن المؤمن لأنه طبق منهج الله يكون حكيماً لا بعد الفضيحة، لكن بعد العلم، فهذا الخالق العظيم الذي خلقك، ووضع لك أسباب سلامتك وسعادتك حينما تطبق منهجه الله فأنت مع خبرة الخبير.
﴾وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴿
كل إنسان لما يعاين القضية بنفسه يدفع الثمن باهظًا
أوضحُ مثلٍ حينما ترى كرة في مكان كان فيه حرب، يا ترى قنبلة ؟ أم كرة ؟ فأنت الآن سوف تجرب، في أثناء التجريب كانت قنبلة فانفجرت، فقضت على هذا الإنسان، أعتقد أن في واحد من ألف من الثانية يدرك أنها قنبلة، لكن متى ؟ بعد فوات الأوان، لئلا تجرب بنفسك، وليبقَى في حياتك وقت كي تستفيد من هذه التجربة ينبغي أن تتبع منهج الله عز وجل، الخبير يقول لك: لا تفعل هذا، لا تخلون بامرأة، لا تأكل مالاً حراماً، لا تكذب، لا تزْنِ، فأنت حينما تطبق منهج الله دون أن تشعر تسلك سبيل عزتك، فالله عز وجل يعزك بالفطرة، ويعزك بالمنهج الذي وضعه الله لك، أما إذا أذل الله الإنسان يذله ليتوب، فإذا تاب أعزه، أوضح مثلٍ:
لكل عصر فرعون
﴾إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ﴿
وهذه الآية أرجو الله أن تنطبق على المسلمين أشد الانطباق
﴾إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ ﴿
ولكل عصر فرعون، ولكل عصر وحيد القرن، وهذا القرن له وحيد يهدد،ويتوعد، ويستعلي، ويستكبر، ويقصف، ويهدم، إلخ...
إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي﴿
﴾نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ
الآن
وعد الله للمؤمنين بالتمكين في الأرض
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ
كأن المشروع الإلهي لهؤلاء المسلمين الذين غفلوا عن الله، وغفلوا عن تطبيق منهجه أراد الله أن يوقظهم، وكل شيء وقع أراده الله، فإذا تيقظوا، واصطلحوا مع ربهم مكنهم في الأرض، ثم يكلفهم أن يؤدبوا الذين اضطهدوهم سابقاً،
﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا ﴾
يقول وزير خارجية دولة عظمى: أنا لا يعجبنِي أن يكون العالم مئتي دولة، أتمنى العالم أن يكون خمسة آلاف دولة،
﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا ﴾
أينما حل فرعون يقسم أهلها طوائف، وإلى أديان، وإلى شيع، شيء عجيب، بلد يعيش خمسين عامًا موحَّدًا، فإذا جاء فرعون إلى بلدٍ ما قسمه إلى طوائف، عنده ليس هناك طوائف، ثلاثمئة مليون كلهم جنس واحد، لماذا لا يطبق هذا عنده ؟ أما إذا حل في بلد إسلامي يقسمه لا إلى أديان، بل إلى مذاهب، مذاهب مع قوميات، هذا شيء واضح جداً،
السميع البصير
قال تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [الحج: 75].
و(السميع): اسم من أسماء الله الحسنى، بمعنى (السامع)، إلا أنه أبلغ في الصفة، وبناء فعيل: بناء مبالغة، كقولهم: عليم من عالم، وقدير من قادر.
والله عز وجل سميع يسمع السر والنجوى، سواء عنده الجهر والخفوت، والنطق والسكوت. فهو الذي يسمع دعوات عباده وتضرعهم إليه، لا يشغله نداء عن نداء، ولا يمنعه إجابة دعاء عن إجابة دعاء.
ويكون السماع أيضاً بمعنى القبول والإجابة، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم إني أعوذ بك من قول لا يسمع)) (1) . أي دعاء لا يستجاب، ومثله قول المصلي: (سمع الله لمن حمده) أي قبل الله حمد من حمده.
فهو سبحانه وتعالى السميع الذي يجيب الدعوة عند الاضطرار، ويكشف المحنة عند الافتقار، ويغفر المذلة عند الاستغفار، ويرحم الضعف عند الذل والانكسار.
وقد ذكر السميع في القرآن الكريم أكثر من أربعين مرة، اقترن في أكثر من ثلاثين منها بالعليم.
كما اقترن في عشرة مواضع بالبصير، وجاء مقترناً بالقريب مرة واحدة.
قال تعالى: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة: 137].
اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [الحج: 75].
وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ [سبأ: 50].
الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء [إبراهيم: 39].
يقول ابن القيم:
وهو السميع يرى ويسمع كل ما | في الكون من سر ومن إعلان | |
ولكل صوت منه سمع حاضر | فالسر والإعلان مستويان | |
والسمع منه واسع الأصوات لا | يخفى عليه بعيدها والداني |
فسمعه تعالى نوعان: أحدهما سمعه لجميع الأصوات الظاهرة والباطنة الخفية والجلية، وإحاطته التامة بها.
الثاني: سمع الإجابة منه للسائلين والداعين والعابدين فيجيبهم ويثيبهم، ومنه قوله تعالى: إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء وقول المصلي (سمع الله لمن حمده) أي استجاب (2) .
أما اسم الله (البصير): فمعناه الذي أحاط بصره بجميع المبصرات في أقطار الأرض والسموات، فيرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء. وجميع أعضائها الباطنة والظاهرة، وسريان القوت في أعضائها الدقيقة، ويرى سريان المياه في أغصان الأشجار وعروقها، وجميع النباتات على اختلاف أنواعها وصغرها ودقتها، ويرى نياط عروق النملة والنحلة والبعوضة وأصغر من ذلك (3) .
قال ابن القيم:
وهو البصير يرى دبيب النملة السـ | ـــــوداء تحت الصخر والصوان | |
ويرى مجاري القوت في أعضائها | ويرى نياط عروقها بعيان | |
ويرى خيانات العيون بلحظها | ويرى كذلك تقلب الأجفان |
فهو سبحانه وتعالى البصير الذي يشاهد الأشياء كلها، ظاهرها وخفيها، يبصر خائنة الأعين وما تخفي الصدور. يشاهد ويرى ولا يغيب عنه ما فوق السموات العلا أو ما تحت الثرى.
وقال سبحانه: إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ [الأنعام: 57].
وقال جل شأنه: وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص: 70].
وقال: أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ [الأنعام: 62].
وقال: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [الشورى: 10].
وقال ابن الحصار: وقد تضمن هذا الاسم (يعني –الحكم-) جميع الصفات العلى والأسماء الحسنى، إذ لا يكون حكماً إلا سميعاً بصيراً عالماً خبيراً إلى غير ذلك، فهو سبحانه الحكم بين العباد في الدنيا والآخرة في الظاهر والباطن، وفيما شرع من شرعه، وحكم من حكمه وقضاياه على خلقه قولاً وفعلاً، وليس ذلك لغير الله تعالى، ولذلك قال وقوله الحق: لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص: 70].
وقال: الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود: 1]. فلم يزل حكيماً قبل أن يحكم، ولا ينبغي ذلك لغيره (1) .
قال الشنقيطي رحمه الله تعالى:
وبذلك تعلم أن الحلال هو ما أحله الله، والحرام هو ما حرمه الله، والدين هو ما شرعه الله، فكل تشريع من غيره باطل، والعمل به بدل تشريع الله عند من يعتقد أنه مثله أو خير منه، كفر بواح لا نزاع فيه. اهـ (2) .
ثم بين رحمه الله أن الله سبحانه بصفاته العظيمة يستحق أن يكون له الحكم، فهل يوجد في البشر من له مثل صفات خالقه ليشارك ربه في الحكم، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً!
فتعال معي أخي القارئ لنطلع على ما سطره في هذه المسألة في كتابه القيم (أضواء البيان)، قال رحمه الله:
اعلم أن الله جل وعلا بين في آيات كثيرة، صفات من يستحق أن يكون الحكم له، فعلى كل عاقل أن يتأمل الصفات المذكورة، التي سنوضحها الآن إن شاء الله، ويقابلها مع صفات البشر المشرعين للقوانين الوضعية، فينظر هل تنطبق عليهم صفات من له التشريع.
سبحان الله وتعالى عن ذلك. فإن كانت تنطبق عليهم ولن تكون، ليتبع تشريعهم.
وإن ظهر يقيناً أنهم أحقر وأخس وأذل وأصغر من ذلك، فليقف بهم عند حدهم، ولا يجاوزه بهم إلى مقام الربوبية.
سبحانه وتعالى أن يكون له شريك في عبادته، أو حكمه أو ملكه.
فمن الآيات القرآنية التي أوضح بها تعالى صفات من له الحكم والتشريع قوله هنا: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ (الشورى)، ثم قال مبيناً صفات من له الحكم: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الشورى: 10 – 12].
فعليكم أيها المسلمون أن تتفهموا صفات من يستحق أن يشرع ويحلل ويحرم، ولا تقبلوا تشريعاً من كافر خسيس حقير جاهل.
ونظير هذه الآية الكريمة قوله تعالى: فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء: 59]، فقوله فيها فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ كقوله في هذه فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ.
ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [ الكهف: 26].
فهل في الكفرة الفجرة المشرعين من يستحق أن يوصف بأن له غيب السماوات والأرض؟ وأن يبالغ في سمعه وبصره لإحاطة سمعه بكل المسموعات وبصره بكل المبصرات؟ وأنه ليس لأحد دونه من ولي؟ سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً؟
ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: لا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص: 88].
فهل في الكفرة الفجرة المشرعين من يستحق أن يوصف بأن له غيب السماوات والأرض؟ وأن يبالغ في سمعه وبصره لإحاطة سمعه بكل المسموعات وبصره بكل المبصرات؟ وأنه ليس لأحد دونه من ولي؟ سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً؟
سبحانك ربنا وتعاليت عن كل ما لا يليق بكمالك وجلالك.
ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [القصص: 70-73].
فهل في مشرعي القوانين الوضعية، من يستحق أن يوصف بأن له الحمد في الأولى والآخرة، وأنه هو الذي يصرف الليل والنهار مبينا بذلك كمال قدرته، وعظمة إنعامه على خلقه.
سبحان خالق السماوات والأرض، جل وعلا أن يكون له شريك في حكمه أو عبادته، أو ملكه.
ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف: 40].
فهل في أولئك من يستحق أن يوصف بأنه هو الإله المعبود وحده، وأن عبادته وحده هي الدين القيم. اهـ باختصار (3) .
2) الله سبحانه يحكم ما يريد، وما يشاء هو وحده لا شريك له.
قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ [المائدة: 1].
فالله سبحانه يقضي في خلقه ما يشاء من تحليل ما أراد تحليله، وتحريم ما أراد تحريمه، وإيجاب ما شاء إيجابه عليهم، وغير ذلك من أحكامه وقضاياه. وله الحكمة البالغة في ذلك كله.
وليس لأحد أن يراجع الله في حكمه، كما يراجع الناس بعضهم البعض في أحكامهم، قال تعالى: وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [الرعد: 41]، فحكمه في الخلق نافذ، ليس لأحد أن يرده أو يبطله.
3) كلام الله حكيم ومحكم، وكيف لا يكون بهذه الصفة وهو كلام أحكم الحاكمين ورب العالمين.
وقد وصف الله القرآن العظيم (وهو كلامه المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم) بأنه حكيم ومحكم في ثمان آيات منها قوله تعالى: الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود: 1].
وقوله: الم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ [لقمان: 1-2].
وقوله: يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [يس: 1-2].
وقوله: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ... الآية [محمد: 20].
وحكمة الله تقتضي ذلك، تقتضي أن يكون القرآن حكيماً ومحكماً، لأنه الكتاب الذي ليس بعده كتاب، ولأنه الكتاب الذي أنزله الله ليكون تشريعاً عاماً لكل مجتمع بشري ولكل فرد من أفراده، حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
فالقرآن حكيم في أسلوبه الرائع الجذاب، وحكيم في هدايته ورحمته، وحكيم في إيضاحه وبيانه، وحكيم في تشريعاته وحكيم في كل أحكامه، وحكيم في أمره ونهيه، وحكيم في ترغيبه وترهيبه، وحكيم في وعده ووعيده، وحكيم في أقاصيصه وأخباره، وحكيم في أقسامه وأمثال، وحكيم في كل ما اشتمل عليه، بل هو فوق ذلك وأعظم من ذلك.
والقرآن أيضاً محكم فلا حشو فيه، ولا نقص ولا عيب كما يكون في كلام البشر، الله أكبر ما أعظم هذا القرآن، لقد بلغ الغاية في البهاء والجمال والكمال (4) .
4) والإيمان بما سبق يقتضي تحكيم كتاب الله جل شأنه بيننا، لأنه لا يوجد كتاب مثل القرآن حكيماً في كل شيء.
لأن ما شرعه الله سبحانه لعباده من الأحكام والمعاملات والقصاص والحدود وتقسيم المواريث وما يتعلق بالأحوال الشخصية في القرآن الكريم هي في منتهى الحكمة، لأنها تشريع الحكيم العليم سبحانه، الذي لا يدخل حكمه خلل ولا زلل، ولأنها قضاء من لا يخفى عليه مواضع المصلحة في البدء والعاقبة.
وقد نبه الله سبحانه عباده لهذا بقوله: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة: 50]، وقوله: ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الممتحنة: 10] وقوله: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ [التين: 8].
ولذا فإنك تجد آيات الأحكام كثيراً ما تشتمل خواتيمها على اسمه (الحكيم)، ومن الأمثلة على ذلك:
قوله يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ إلى قوله فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيمًا [النساء: 11].
وقوله وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إلى قوله إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء: 24].
وقوله في القتل الخطأ: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا إلى قوله وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء: 92] وقوله: وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا [النساء: 130].
وقوله: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [التحريم: 2]، وغيرها من الآيات.
5) وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يحكم بين الناس بما أنزل إليه من الأحكام الربانية، وأن يترك ما سواها من الآراء والأهواء، قال تعالى: فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ [المائدة: 48].
قال تعالى: وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ [المائدة: 49].
ولم يكن هذا الأمر لمحمد صلى الله عليه وسلم خاصة، وإنما هو ما أمرت به جميع الرسل من قبله، يبين هذا قوله تعالى: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ [البقرة: 213].
وقوله: إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ [المائدة: 44].
والمؤمنون يرضون بحكم الله، قال سبحانه: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [النور: 51].
أما من لم يرض بذلك وترك تشريع الحكيم العليم، وأخذ بآرائه وما يمليه عليه عقله من أفكار، أو اتبع أهواءه وما تشتهيه نفسه، فقد وقع في هاوية الكفر أو الظلم أو الفسق التي حكم الله بها عليه.
قال سبحانه: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة: 44].
وقال: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة: 45].
وقال: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة: 47].
6) الله سبحانه يؤتي حكمته من يشاء:
كما قال عن نفسه جل ثناؤه: يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا [البقرة: 269].
وقد تنوعت عبارات المفسرين في تأويل قوله تعالى يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فمنهم من قال هي الإصابة في القول والفعل، وقيل: هي الفقه في القرآن والفهم فيه. وقال بعضهم: هي الفهم والعقل في الدين والأتباع له. وقال آخرون: هي النبوة. وقيل هي: الخشية لله.
قال ابن جرير جامعاً بين الأقوال السابقة: وقد بينا فيما مضى معنى الحكمة وأنها مأخوذة من الحكم وفصل القضاء، وأنها الإصابة بما دل على صحته، فأغنى عن تكريره في هذا الموضع.
فإذا كان ذلك كذلك معناه، كان جميع الأقوال التي قالها القائلون الذين ذكرنا قولهم في ذلك، داخلاً فيما قلنا من ذلك، لأن الإصابة في الأمور، إنما تكون عن فهم بها وعلم ومعرفة، وإذا كان ذلك كذلك، كان المصيب عن فهم منه بمواضع الصواب في أموره، فهو خاشياً لله عالماً، وكانت النبوة من أقسامه لأن الأنبياء مسددون مفهمون وموفقون لإصابة الصواب في الأمور، والنبوة بعض معاني الحكمة.
فتأويل الكلام: يؤتي الله إصابة الصواب في القول والفعل من يشاء، ومن يؤته الله ذلك فقد أتاه خيراً كثيراً. اهـ (5) .
7) وقد جاء في الحديث ما يدل على أنه من أوتي الحكمة ينبغي أن يغبط لعظم هذه النعمة عليه وهو قوله صلى الله عليه وسلم((لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، وآخر آتاه الله حكمه فهو يقضي بها ويعلمها)) (6) .
وقد ذكر الله في كتابه بعض الذين آتاهم الحكمة وأكثرهم من الأنبياء فامتن على محمد صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله:
وعلى آل إبراهيم صلوات الله عليهم أجمعين فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا [النساء: 54].
وعلى عيسى عليه السلام وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ [المائدة: 110].
وعلى داود عليه السلام وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء [البقرة: 251].
وعلى لقمان العبد الصالح وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ [لقمان: 12]. والله سبحانه أعلم حيث يجعل حكمته.
8) خلق الله سبحانه محكم لا خلل فيه ولا قصور. قال تعالى: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [النمل: 88].
وقال: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ [تبارك: 3].
أي خلقهن طبقة بعد طبقة مستويات ليس فيها اختلاف ولا تنافر ولا نقص ولا عيب، ولهذا قال تعالى فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ أي انظر إلى السماء فتأملها هل ترى فيها عيباً أو نقصاً أو خللاً أو فطوراً وشقوقاً، ثم قال تعالى ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ أي مهما كررت البصر مرتين أو أكثر لرجع إليك البصر خاسئاً عن أن يرى عيباً أو خللاً، وهو حسير أي كليل قد انقطع من الإعياء من كثرة التكرر ولا يرى نقصاً (7) .
قال الخطابي: ومعنى الإحكام لخلق الأشياء، إنما ينصرف إلى إتقان التدبير فيها، وحسن التقدير لها، إذ ليس كل الخليقة موصوفاً بوثاقة البنية، وشدة الأسر كالبقة، والنملة، وما أشبههما من ضعاف الخلق، إلا أن التدبير فيهما، والدلالة بها على كون الصانع وإثباته، ليس بدون الدلالة عليه بخلق السماوات والأرض والجبال وسائر معاظم الخليقة، وكذلك هذا في قوله جل وعز: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [السجدة: 7]، لم تقع الإشارة به إلى الحسن الرائق في المنظر، فإن هذا المعنى معدوم في القرد والخنزير والدب، وأشكالها من الحيوان، وإنما ينصرف المعنى فيه إلى حسن التدبير في إنشاء كل شيء من خلقه على ما أحب أن ينشئه عليه وإبرازه على الهيئة التي أراد أن يهيئه عليها، كقوله تعالى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان: 2]اهـ (8) .
9) إن الله سبحانه خلق الخلق لحكمة عظيمة، وغاية جليلة، وهي عبادته تبارك وتعالى حيث قال: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات: 56-58].
ولم يخلقهم عبثاً وباطلاً كما يظن الكفار والملاحدة، قال تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص: 27].
وقال سبحانه: مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى [الأحقاف: 3].
وقال عز من قائل: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ [المؤمنون: 115].
وجعل يوم القيامة موعدا لهم، يرجعون إليه ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى.
10) كراهة التكني بأبي الحكم:
فعن هانئ بن يزيد أنه لما وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قومه سمعهم يكنونه بأبي الحكم فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((إن الله هو الحكم، وإليه الحكم، فلم تكنى أبا الحكم؟ فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم فرض كلا الفريقين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أحسن هذا. فما لك من الولد؟ قال: لي شريح ومسلم وعبد الله. قال: فمن أكبرهم؟ قلت: شريح. قال: فأنت أبو شريح)) (9) .
فتغيير النبي صلى الله عليه وسلم لكنية الصحابي دليل على كراهته التكني بهذا الاسم أو التسمي به.
قال ابن الأثير: وإنما كره له ذلك لئلا يشارك الله تعالى في صفته.
العدل
صفةٌ ثابتةٌ لله عزَّ وجلَّ بالأحاديث الصحيحة.
· الدليل:
قول النبي صلى الله عليه وسلم للذي قال: والله؛ إنَّ هذه قسمة ما عدل فيها: ((فمَن يعدل إذا لم يَعْدِل الله ورسوله)) (2) .
قال ابن القيم:
(والعَدْلُ مِنْ أوْصَافِهِ فِي فِعْلِهِ | وَمَقَالِهِ وَالحُكْمِ فِي المِيزانِ) (3) |
قال الهرَّاس: ((وهو سبحانه موصوف بالعدل في فعله، فأفعاله كلها جارية على سنن العدل والاستقامة، ليس فيها شائبة جور أصلاً؛ فهي دائرة كلها بين الفضل والرحمة، وبين العدل والحكمة)). اهـ
وقد عدَّ بعضهم (العدل) من أسماء الله تعالى، وليس معهم في ذلك دليل، والصواب أنه ليس اسماً له، بل هو صفة.
اللطيف
قال تعالى:( لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ )[الأنعام: 103].
قال السعدي رحمه الله: "اللطيف": الذي لطف علمه حتى أدرك الخفايا، والخبايا، وما احتوت عليه الصدور، وما في الأراضي من خفايا البذور. ولطف بأوليائه، وأصفيائه، فيسرهم لليسرى وجنبهم العسرى، وسهل لهم كل طريق يوصل إلى مرضاته وكرامته وحفظهم من كل سبب ووسيلة توصل إلى سخطه، من طرق يشعرون بها، ومن طرق لا يشعرون بها، وقدر عليهم أمورا يكرهونها لينيلهم ما يحبون، فلطف بهم في أنفسهم فأجراهم على عوائده الجميلة، وصنائعه الكريمة، ولطف لهم في أمور خارجة عنهم لهم فيها كل خير وصلاح ونجاح، فاللطيف متقارب لمعاني الخبير، الرؤوف، الكريم (2)
وقال في موضع آخر: وهذا من آثار علمه وكرمه ورحمته، فلهذا كان معنى اللطيف أنه الخبير الذي أحاط علمه بالأسرار والبواطن والخبايا والخفايا ومكنونات الصدور ومغيبات الأمور، وما لطف ودقَّ من كل شيء. النوع الثاني: لطفه بعبده ووليه الذي يريد أن يتم عليه إحسانه، ويشمله بكرمه ويرقيه إلى المنازل العالية فييسره لليسرى، ويجنبه العسرى، ويجري عليه من أصناف المحن التي يكرهها وتشق عليه وهي عين صلاحه، والطريق إلى سعادته، كما امتحن الأنبياء بأذى قومهم وبالجهاد في سبيله وكما ذكر الله عن يوسف عليه السلام وكيف ترقت به الأحوال ولطف الله به وله بما قدره عليه من تلك الأحوال التي حصلت له في عاقبتها حسن العقبى في الدنيا والآخرة. وكما يمتحن أولياءه بما يكرهونه لينيلهم ما يحبون، وكم لله من لطف، وكرم لا تدركه الأفهام ولا تتصوره الأوهام، وكم استشرف العبد على مطلوب من مطالب الدنيا من ولاية ورياسة أو سبب من الأسباب المحبوبة فيصرفه الله عنها ويصرفها عنه رحمة به لئلا تضره في دينه، فيظل العبد حزينا من جهله وعدم معرفته بربه، ولو علم ما ادخر له في الغيب وأريد إصلاحه لحمد الله وشكره على ذلك، فإن الله بعباده رؤوف رحيم، لطيف بأوليائه. وفي الدعاء المأثور:((اللهم ما رزقتني مما أحب فاجعله قوة لي فيما تحب، وما زويت عني مما أحب فاجعله فراغا لي فيما تحب)) (1) ، اللهم الطف بنا في قضائك وبارك لنا في قدرتك حتى لا نحب تعجيل ما أخرت ولا تأخير ما عجلت (3) وقال أيضاً: واعلم أن اللطف الذي يطلبه العباد من الله بلسان المقال، ولسان الحال هو من الرحمة بل هو رحمة خاصة فالرحمة التي تصل العبد من حيث لا يشعر بها أو لا يشعر بأسبابها هي اللطف فإذا قال العبد: يا لطيف الطف بي أو لي وأسألك لطفك فمعناه تولني ولاية خاصة بها تصلح أحوالي الظاهرة، والباطنة وبها تندفع عني جميع المكروهات من الأمور الداخلية والأمور الخارجية. فالأمور الداخلية لطف بالعبد. والأمور الخارجية لطف للعبد فإذا يسر الله عبده وسهل طريق الخير وأعانه عليه فقد لطف به وإذا قيض الله له أسبابا خارجية غير داخلة تحت قدرة العبد فيها صلاحه فقد لطف له ولهذا لما تنقلت بيوسف عليه السلام تلك الأحوال، وتطورت به الأطوار من رؤياه، وحسد إخوته له، وسعيهم في إبعاده جدا، واختصامهم بأبيهم ثم محنته بالنسوة ثم بالسجن ثم بالخروج منه بسبب رؤيا الملك العظيمة، وانفراده بتعبيرها، وتبوؤه من الأرض حيث يشاء، وحصول ما حصل على أبيه من الابتلاء، والامتحان ثم حصل بعد ذلك الاجتماع السار وإزالة الأكدار وصلاح حالة الجميع والاجتباء العظيم ليوسف عرف عليه السلام أن هذه الأشياء وغيرها لطفٌ لطف الله لهم به فاعترف بهذه النعمة فقال: إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [يوسف: 100] أي لطفه تعالى خاص لمن يشاء من عباده ممن يعلمه تعالى محلا لذلك وأهلا له فلا يضعه إلا في محله. الله أعلم حيث يضع فضله فإذا رأيت الله تعالى قد يسر العبد لليسرى، وسهل له طريق الخير، وذلل له صعابه، وفتح له أبوابه، ونهج له طرقه، ومهد له أسبابه، وجنبه العسرى فقد لطف به. ومن لطفه بعباده المؤمنين أنه يتولاهم بلطفه فيخرجهم من الظلمات إلى النور من ظلمات الجهل، والكفر، والبدع، والمعاصي إلى نور العلم والإيمان والطاعة، ومن لطفه أنه يرحمهم من طاعة أنفسهم الأمارة بالسوء التي هذا طبعها وديدنها فيوفقهم لنهي النفس عن الهوى ويصرف عنهم السوء والفحشاء فتوجد أسباب الفتنة، وجواذب المعاصي وشهوات الغي فيرسل الله عليها برهان لطفه ونور إيمانهم الذي مَنَّ به عليهم فيدعونها مطمئنين لذلك منشرحة لتركها صدورهم. ومن لطفه بعباده أنه يقدر أرزاقهم بحسب علمه بمصلحتهم لا بحسب مراداتهم فقد يريدون شيئا وغيره أصلح فيقدر لهم الأصلح وإن كرهوه لطفا بهم، وبرا، وإحسانا اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ [الشورى: 19] وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ [الشورى: 27]. ومن لطفه بهم أنه يقدر عليهم أنواع المصائب، وضروب المحن، والابتلاء بالأمر والنهي الشاق رحمة بهم، ولطفا، وسوقا إلى كمالهم، وكمال نعيمهم: وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة: 216]. ومن لطيف لطفه بعبده إذ أهله للمراتب العالية، والمنازل السامية التي لا تدرك بالأسباب العظام التي لا يدركها إلا أرباب الهمم العالية، والعزائم السامية أن يقدر له في ابتداء أمره بعض الأسباب المحتملة المناسبة للأسباب التي أهل لها ليتدرج من الأدنى إلى الأعلى ولتتمرن نفسه ويصير له ملكة من جنس ذلك الأمر وهذا كما قدر لموسى ومحمد وغيرهما من الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - في ابتداء أمرهم رعاية الغنم ليتدرجوا من رعاية الحيوان البهيم وإصلاحه إلى رعاية بني آدم ودعوتهم وإصلاحهم. وكذلك يذيق عبده حلاوة بعض الطاعات فينجذب ويرغب ويصير له ملكة قوية بعد ذلك على طاعات أجل منها وأعلى ولم تكن تحصل بتلك الإرادة السابقة حتى وصل إلى هذه الإرادة والرغبة التامة. ومن لطفه بعبده أن يقدر له أن يتربى في ولاية أهل الصلاح، والعلم، والإيمان وبين أهل الخير ليكتسب من أدبهم، وتأديبهم ولينشأ على صلاحهم وإصلاحهم كما امتن الله على مريم في قوله تعالى: فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا [آل عمران: 37]، إلى آخر قصتها، ومن ذلك إذا نشأ بين أبوين صالحين وأقارب أتقياء أو في بلد صلاح أو وفقه الله لمقارنة أهل الخير وصحبتهم أو لتربية العلماء الربانيين فإن هذا من أعظم لطفه بعبده فإن صلاح العبد موقوف على أسباب كثيرة منها بل من أكثرها وأعظمها نفعا هذه الحالة. ومن ذلك إذا نشأ العبد في بلد أهله على مذهب أهل السنة والجماعة فإن هذا لطف له وكذلك إذا قدر الله أن يكون مشايخه الذين يستفيد منهم الأحياء منهم والأموات أهل سنة وتقى فإن هذا من اللطف الرباني ولا يخفى لطف الباري في وجود شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في أثناء قرون هذه الأمة وتبيين الله به وبتلامذته من الخير الكثير والعلم الغزير وجهاد أهل البدع والتعطيل والكفر ثم انتشار كتبه في هذه الأوقات فلا شك أن هذا من لطف الله لمن انتفع بها وأنه يتوقف خير كثير على وجودها فلله الحمد والمنة والفضل. ومن لطف الله بعبده أن يجعل رزقه حلالا في راحة وقناعة يحصل به المقصود ولا يشغله عما خلق له من العبادة والعلم والعمل بل يعينه على ذلك ويفرغه ويريح خاطره وأعضاءه ولهذا من لطف الله تعالى لعبده أنه ربما طمحت نفسه لسبب من الأسباب الدنيوية التي يظن فيها إدراك بغيته فيعلم الله تعالى أنها تضره وتصده عما ينفعه فيحول بينه وبينها فيظل العبد كارها ولم يدر أن ربه قد لطف به حيث أبقى له الأمر النافع وصرف عنه الأمر الضار ولهذا كان الرضى بالقضاء في مثل هذه الأشياء من أعلى المنازل. ومن لطف الله بعبده إذا قدر له طاعة جليلة لا تنال إلا بأعوان أن يقدر له أعوانا عليها ومساعدين على حملها قال موسى عليه السلام: وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا [طه: 29-34]. وكذلك امتن على عيسى بقوله: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ [المائدة: 111]. وامتن على سيد الخلق في قوله: هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ[الأنفال: 62] وهذا لطف لعبده خارج عن قدرته ومن هذا لطف الله بالهادين إذا قيض الله من يهتدي بهداهم ويقبل إرشادهم فتتضاعف بذلك الخيرات والأجور التي لا يدركها العبد بمجرد فعله بل هي مشروطة بأمر خارجي. ومن لطف الله بعبده أن يعطي عبده من الأولاد، والأموال، والأزواج ما به تقر عينه في الدنيا، ويحصل له السرور، ثم يبتليه ببعض ذلك ويأخذه، ويعوضه عليه الأجر العظيم إذا صبر واحتسب فنعمة الله عليه بأخذه على هذا الوجه أعظم من نعمته عليه في وجوده وقضاء مجرد وطره الدنيوي منه وهذا أيضا خير وأجر خارج عن أحوال العبد بنفسه بل هو لطف من الله له قيض له أسبابا أعاضه عليها الثواب الجزيل والأجر الجميل. ومن لطف الله بعبده أن يبتليه ببعض المصائب فيوفقه للقيام بوظيفة الصبر فيها فينيله درجات عاليه لا يدركها بعمله وقد يشدد عليه الابتلاء بذلك كما فعل بأيوب عليه السلام ويوجد في قلبه حلاوة روح الرجاء وتأميل الرحمة وكشف الضر فيخف ألمه وتنشط نفسه. ولهذا من لطف الله بالمؤمنين أن جعل في قلوبهم احتساب الأجر فخفت مصائبهم وهان ما يلقون من المشاق في حصول مرضاته. ومن لطف الله بعبده المؤمن الضعيف أن يعافيه من أسباب الابتلاء التي تضعف إيمانه وتنقص إيقانه. كما أن من لطفه بالمؤمن القوي تهيئة أسباب الابتلاء والامتحان ويعينه عليها ويحملها عنه ويزداد بذلك إيمانه ويعظم أجره فسبحان اللطيف في ابتلائه وعافيته وعطائه ومنعه. ومن لطف الله بعبده أن يسعى لكمال نفسه مع أقرب طريق يوصله إلى ذلك مع وجود غيرها من الطرق التي تبعد عليه فييسر عليه التعلم من كتاب أو معلم يكون حصول المقصود به أقرب وأسهل وكذلك ييسره لعبادة يفعلها بحالة اليسر والسهولة وعدم التعويق عن غيرها مما ينفعه فهذا من اللطف. ومن لطف الله بعبده قدر الواردات الكثيرة والأشغال المتنوعة والتدبيرات والمتعلقات الداخلة والخارجة التي لو قسمت على أمة من الناس لعجزت قواهم عليها أن يمن عليه بخلق واسع وصدر متسع وقلب منشرح بحيث يعطي كل فرد من أفرادها نظرا ثاقبا وتدبيرا تاما وهو غير مكترث ولا منزعج لكثرتها وتفاوتها بل قد أعانه الله تعالى عليها ولطف به فيها ولطف له في تسهيل أسبابها وطرقها وإذا أردت أن تعرف هذا الأمر فانظر إلى حالة المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله بصلاح الدارين وحصول السعادتين وبعثه مكملا لنفسه ومكملا لأمة عظيمة هي خير الأمم ومع هذا مكنه الله ببعض عمره الشريف في نحو ثلث عمره أن يقوم بأمر الله كله على كثرته وتنوعه وأن يقيم لأمته جميع دينهم ويعلمهم جميع أصوله وفروعه ويخرج الله به أمة كبيرة من الظلمات إلى النور ويحصل به من المصالح والمنافع والخير والسعادة للخاص والعام مالا تقوم به أمة من الخلق. ومن لطف الله تعالى بعبده أن يجعل ما يبتليه به من المعاصي سببا لرحمته فيفتح له عند وقوع ذلك باب التوبة والتضرع والابتهال إلى ربه وازدراء نفسه واحتقارها وزوال العجب والكبر من قلبه ما هو خير له من كثير من الطاعات.
ومن لطفه بعبده الحبيب عنده إذا مالت نفسه مع شهوات النفس الضارة واسترسلت في ذلك أن ينقصها عليه ويكدرها فلا يكاد يتناول منها شيئا إلا مقرونا بالمكدرات محشوا بالغصص لئلا يميل معها كل الميل، كما أن من لطفه به أن يلذذ له التقربات ويحلي له الطاعات ليميل إليها كل الميل. ومن لطيف لطف الله بعبده أن يأجره على أعمال لم يعملها بل عزم عليها فيعزم على قربة من القرب ثم تنحل عزيمته لسبب من الأسباب فلا يفعلها فيحصل له أجرها فانظر كيف لطف الله به فأوقعها في قلبه وأدارها في ضميره وقد علم تعالى أنه لا يفعلها سوقا لبره لعبده وإحسانه بكل طريق. وألطف من ذلك أن يقيض لعبده طاعة أخرى غير التي عزم عليها هي أنفع له منها فيدع العبد الطاعة التي ترضي ربه لطاعة أخرى هي أرضى لله منها فتحصل له المفعولة بالفعل والمعزوم عليها بالنية وإذا كان من يهاجر إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت قبل حصول مقصوده قد وقع أجره على الله مع أن قطع الموت بغير اختياره فكيف بمن قطعت عليه نيته الفاضلة طاعة قد عزم على فعلها وربما أدار الله في ضمير عبده عدة طاعات كل طاعة لو انفردت لفعلها العبد لكمال رغبته ولا يمكن فعل شيء منها إلا بتفويت الأخرى فيوفقه للموازنة بينها وإيثار أفضلها فعلا مع رجاء حصولها جميعها عزما ونية. وألطف من هذا أن يقدر تعالى لعبده ويبتليه بوجود أسباب المعصية ويوفر له دواعيها وهو تعالى يعلم أنه لا يفعلها ليكون تركه لتلك المعصية التي توفرت أسباب فعلها من أكبر الطاعات. كما لطف بيوسف عليه السلام في مراودة المرأة. وأحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين. ومن لطف الله بعبده أن يقدر خيرا وإحسانا من عبده ويجريه على يد عبده الآخر ويجعله طريقا إلى وصوله إلى المستحق فيثيب الله الأول والآخر. ومن لطف الله بعبده أن يجري بشيء من ماله شيئا من النفع وخيرا لغيره فيثيبه من حيث لا يحتسب فمن غرس غرسا أو زرع زرعا فأصابت منه روح من الأرواح المحترمة شيئا آجر الله صاحبه وهو لا يدري خصوصا إذا كانت عنده نية حسنة وعقد مع ربه عقدا في أنه مهما ترتب على ماله شيء من النفع فأسألك يا رب أن تأجرني وتجعله قربة لي عندك، وكذلك لو كان له بهائم انتفع بدرها وركوبها والحمل عليها، أو مساكن انتفع بسكناها ولو شيئا قليلا، أو ماعون ونحوه انتفع به، أو عين شرب منها، وغير ذلك ككتاب انتفع به في تعلم شيء منه، أو مصحف قرئ فيه، والله ذو الفضل العظيم. ومن لطف الله بعبده أن يفتح له بابا من أبواب الخير لم يكن له على بال، وليس ذلك لقلة رغبته فيه وإنما هو غفلة منه وذهول عن ذلك الطريق فلم يشعر إلا وقد وجد في قلبه الداعي إليه والملفت إليه ففرح بذلك وعرف أنها من ألطاف سيده وطرقه التي قيض وصولها إليه فصرف لها ضميره ووجه إليها فكره وأدرك منها ما شاء الله وفتح.
الخبير
قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ [فاطر: 31].
وقوله تعالى: قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ [التحريم: 3].
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (الخبير): الذي انتهى علمه إلى الإحاطة ببواطن الأشياء وخفاياها كما أحاط بظواهرها (1) .
وقال الغزالي رحمه الله تعالى: (-الخبير- هو الذي لا تعزب عنه الأخبار الباطنة ولا يجري في الملك والملكوت شيء ولا يتحرك ذرة ولا يسكن ولا يضطرب نفس ولا يطمئن إلا ويكون عنده خبره. وهو بمعنى العليم، لكن العليم إذا أضيف إلى الخفايا الباطنة سمي خبرة وسمي صاحبها خبيراً) (2) .
وقال السعدي رحمه الله تعالى: (-العليم الخبير- وهو الذي أحاط علمِه بالظواهر والبواطن، والإسرار والإعلان، وبالواجبات والمستحيلات والممكنات وبالعالم العلوي والسفلي، وبالماضي والحاضر والمستقبل، فلا يخفى عليه شيء من الأشياء) (3) .
ويقول ابن عاشور رحمه الله تعالى: (-والخبير-: العالم بدقائق الأمور المعقولة والمحسوسة والظاهرة والخفية)
الحليم
قال تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [البقرة: 235].
قال السعدي رحمه الله: "الحليم" الذي وسع حلمه أهل الكفر، والفسوق، والعصيان، ومنع عقوبته أن تحل بأهل الظلم عاجلا، فهو يمهلهم ليتوبوا، ولا يهملهم إذا أصروا، واستمروا في طغيانهم، ولم ينيبوا (1) وقال: والحليم الذي يدر على خلقه النعم الظاهرة، والباطنة مع معاصيهم، وكثرة زلاتهم، فيحلم عن مقابلة العاصين بعصيانهم، ويستعتبهم كي يتوبوا، ويمهلهم كي ينيبوا (2) وقال أيضًا: فله الحلم الكامل، وله العفو الشامل، ومتعلق هذين
العظيم
قال تعالى: لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [الشورى: 4].
قال السعدي رحمه الله: العظيم: الجامع لجميع صفات العظمة والكبرياء والمجد والبهاء الذي تحبه القلوب، وتعظمه الأرواح، ويعرف العارفون أن عظمة كل شيء، وإن جلت في الصفة، فإنها مضمحلة في جانب عظمة العلي العظيم (2) وقال أيضاً: إنَّ الله تعالى عظيم، له كل وصف ومعنى يوجب التعظيم فلا يقدر مخلوق أن يثني عليه كما ينبغي له ولا يحصي ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه وفوق ما يثني عليه عباده. واعلم أن معاني التعظيم الثابتة لله وحده نوعان: أحدهما: أنه موصوف بكل صفة كمال، وله من ذلك الكمال أكمله، وأعظمه وأوسعه، فله العلم المحيط، والقدرة النافذة، والكبرياء، والعظمة، ومن عظمته أن السماوات والأرض في كف الرحمن أصغر من الخردلة كما قال ذلك ابن عباس وغيره وقال تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر: 67]. وقال: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ [فاطر: 41] وقال تعالى وهو العلي العظيم: تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ [الشورى: 5] الآية. وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يقول الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما عذبته)) (1) . فلله تعالى الكبرياء والعظمة، والوصفان اللذان لا يقدر قدرهما ولا يبلغ كنههما. النوع الثاني: من معاني عظمته تعالى أنه لا يستحق أحد من الخلق أن يعظم كما يعظم الله فيستحق جل جلاله من عباده أن يعظموه بقلوبهم، وألسنتهم، وجوارحهم وذلك ببذل الجهد في معرفته، ومحبته، والذل له، والانكسار له، والخضوع لكبريائه، والخوف منه وإعمال اللسان بالثناء عليه، وقيام الجوارح بشكره وعبوديته، ومن تعظيمه أن يتقى حق تقاته فيطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر، ومن تعظيمه تعظيم ما حرمه وشرعه من زمان ومكان وأعمال: ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج: 32] وذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ [الحج: 30] ومن تعظيمه أن لايعترض على شيء مما خلقه أو شرعه.
الشكور
قال تعالى: مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا [النساء: 147].
قال السعدي رحمه الله: من أسمائه تعالى الشاكر الشكور (1) ، (وهو الذي يشكر القليل من العمل الخالص النقي النافع، ويعفو عن الكثير من الزلل ولا يضيع أجر من أحسن عملا بل يضاعفه أضعافا مضاعفة بغير عد ولا حساب، ومن شكره أنه يجزي بالحسنة عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وقد يجزي الله العبد على العمل بأنواع من الثواب العاجل قبل الآجل، وليس عليه حق واجب بمقتضى أعمال العباد وإنما هو الذي أوجب الحق على نفسه كرما منه وجودا، والله لا يضيع أجر العاملين به إذا أحسنوا في أعمالهم وأخلصوها لله تعالى) (2)
فإذا قام عبده بأوامره، وامتثل طاعته أعانه على ذلك، وأثنى عليه، ومدحه، وجازاه في قلبه نوراً وإيماناً وسعةً، وفي بدنه قوةً ونشاطاً وفي جميع أحواله زيادة بركة ونماء، وفي أعماله زيادة توفيق. ثم بعد ذلك يقدم على الثواب الآجل عند ربه كاملاً موفوراً، لم تنقصه هذه الأمور. ومن شكره لعبده، أن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، ومن تقرب منه شبراً تقرب منه ذراعاً، ومن تقرب منه ذراعاً تقرب منه باعاً، ومن أتاه يمشي أتاه هرولة، ومن عامله ربح عليه أضعافاً مضاعفة.
العلي المتعال
قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [الحج: 62] وقوله تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى: 1].
وقوله: عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ [الرعد: 9].
قال الخطابي: ("العلي": هو العالي القاهر، فعيل بمعنى فاعل، كالقدير والقادر والعليم والعالم، وقد يكون ذلك من العلو الذي هو مصدر علا، يعلو، فهو عال، كقوله: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5]، ويكون ذلك من علاء المجد والشرف، يقال منه: علي يعلى علاء، ويكون الذي علا وجل أن تلحقه صفات الخلق أو تكيفه أوهامهم) اهـ (1) .
وقال البغوي في قوله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ [الحج: 62]: (العالي على كل شيء) (2) .
وقال ابن كثير: (وقوله: وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [الحج: 62] كما قال: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة: 255].
وقال: الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ [الرعد: 9]، فكل شيء تحت قهره وسلطانه وعظمته، لا إله إلا هو، ولا رب سواه؛ لأنه العظيم الذي لا أعظم منه، العلي الذي لا أعلى منه، الكبير الذي لا أكبر منه، تعالى وتقدس وتنزه عز وجل عما يقول الظالمون المعتدون علواً كبيراً) اهـ (3) .
وقال أبو بكر بن خزيمة رحمه الله: (وقال جل وعلا: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى: 1]، فالأعلى مفهوم في اللغة أنه أعلى كل شيء، وفوق كل شيء، والله قد وصف نفسه في غير موضع من تنزيله ووجوهه، وأعلمنا أنه العلي العظيم، أفليس العلي – يا ذوي الحجى – ما يكون عالياً، لا كما تزعم المعطلة الجهمية أنه أعلى وأسفل ووسط ومع كل شيء، وفي كل موضع من أرض وسماء، وفي أجواف جميع الحيوان، ولو تدبروا الآية من كتاب الله ووفقهم الله لفهمها لعقلوا أنهم جهال لا يفهمون ما يقولون، وبان لهم جهل أنفسهم وخطأ مقالتهم.
قال الله تعالى لما سأله موسى عليه السلام أن يريه ينظر إليه قال: لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ [الأعراف: 143] إلى قوله: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا [الأعراف: 143]، أفليس العلم محيطاً – يا ذوي الألباب – أن الله عز وجل لو كان في كل موضع ومع كل بشر وخلق – كما زعمت المعطلة – لكان متجلياً لكل شيء، وكذلك جميع ما في الأرض لو كان متجلياً لجميع أرضه سهلها ووعرها، وجبالها براريها ومفازها، مدنها وقراها، وعمارتها وخرابها، وجميع ما فيها من نبات وبناء، لجعلها دكاً كما جعل الله الجبل الذي تجلى له دكا، قال تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا [الأعراف: 143]) اهـ (4) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وهو سبحانه وصف نفسه بالعلو، وهو من صفات المدح له بذلك والتعظيم؛ لأنه من صفات الكمال، كما مدح نفسه بأنه العظيم والعليم والقدير والعزيز والحليم ونحو ذلك، وأنه الحي القيوم، ونحو ذلك من معاني أسمائه الحسنى، فلا يجوز أن يتصف بأضداد هذه، فلا يجوز أن يوصف بضد الحياة والقيومية والقدرة، مثل الموت والنوم والجهل والعجز واللغوب، ولا بضد العزة وهو الذل، ولا بضد الحكمة وهو السفه.
فكذلك لا يوصف بضد العلو وهو السفول، ولا بضد العظيم وهو الحقير، بل هو سبحانه منزه عن هذه النقائص المنافية لصفات الكمال الثابتة له، فثبوت الكمال له ينفي اتصافه بأضدادها وهي النقائص) اهـ (5) .
وقال ابن القيم رحمه الله:
هذا ومن توحيدهم إثبات أو | صاف الكمال لربنا الرحمن | |
كعلوه سبحانه فوق السمـــ | ـــاوات العلى بل فوق كل مكان | |
فهو العلي بذاته سبحانه | إذ يستحيل خلاف ذا بيان | |
وهو الذي حقا على العرش استوى | قد قام بالتدبير للأكوان |
وقال:
وهو العلي فكل أنواع العلو | فثابتة له بلا نكران (6) |
وقال السعدي: ("العلي الأعلى": وهو الذي له العلو المطلق من جميع الوجوه: علو الذات، وعلو القدر والصفات، وعلو القهر، فهو الذي على العرش استوى، وعلى الملك احتوى، وبجميع صفات العظمة والكبرياء والجلال والجمال وغاية الكمال اتصف، وإليه فيها المنتهى) اهـ (7) . (11)
ويقول ابن جرير رحمه الله تعالى: (وأما تأويل قوله: (وهو العلي) فإنه يعني: والله العلي، والعلي الفعيل من قولك: علا يعلو علواً إذا ارتفع فهو عال وعلي، والعلي: ذو العلو والارتفاع على خلقه بقدرته) (8) ...
والله تبارك وتعالى له جميع أنواع العلو، ومن أنكر شيئاً منها، فقد ضل ضلالاً بعيداً، وقد جاءت النصوص بإثبات أنواع العلو لله، وهي:
1- علو الذات، فالله تبارك وتعالى مستو على عرشه، وعرشه فوق مخلوقاته، كما قال تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [يونس: 3].
وقال: اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ، الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه 5].
والله مستو على عرشه فوق عباده، كما قال تبارك وتعالى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام: 18].
وقال: يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [النحل: 50]...
2- علو القهر والغلب، كما قال تعالى: هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [الزمر: 4]. فلا ينازعه منازع، ولا يغلبه غالب، وكل مخلوقاته تحت قهره وسلطانه، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وقد وصف الحق – تبارك وتعالى – نفسه بصفات كثيرة تدل على علو القهر والغلب كالعزيز، والقوي، والقدير، والقاهر والغالب ونحو ذلك. قال سبحانه: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام: 18].
3- علو المكانة والقدر، وهو الذي أطلق عليه القرآن: (المثل الأعلى) كما في قوله تعالى: وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ [النحل: 60]، وقوله: وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الروم: 27].
فالمثل الأعلى: الصفات العليا التي لا يستحقها غيره، فالله هو الإله الواحد الأحد، وهو متعال عن الشريك والمثيل والند والنظير: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص: 1-4].
وفي إثبات كل أنواع العلو للعلي العظيم يقول ابن القيم رحمه الله تعالى:
وهو العلي فكل أنواع العلو | فثابتة له بلا نكران (9) |
ويقول أيضاً: في نونيته مبيناً اسمي الجلالة (الأعلى، والعلي) ودلالتهما على علو الله تعالى على خلقه:
هذا وثانيها صريح علوه | وله بحكم صريحه لفظان | |
لفظ العلي ولفظة الأعلى معرفة | أتتك هنا لقصد بيان | |
إن العلو له بمطلقه على التعميم | والإطلاق بالبرهان | |
وله العلو من الوجوه جميعها | ذاتاً وقهراً من علو الشان |
المتكبر الكبير
سمى الله سبحانه وتعالى نفسه بـ(المتكبر) في آية واحدة من القرآن الكريم في قوله الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ [الحشر: 23]، وأما اسمه (الكبير) فقد ورد في ستة مواضع من القرآن الكريم منها قوله تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ [الرعد: 9]، وقوله: وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [الحج: 62]، وقد جاء مقترناً باسمه (العلي) و(المتعال).
... قال قتادة: المتكبر أي تكبر عن كل شر (1) .
وقيل المتكبر هو الذي تكبر عن ظلم عباده، وهو يرجع إلى الأول (2) .
وقال الخطابي: هو المتعالي عن صفات الخلق، ويقال: هو الذي يتكبر على عتاة خلقه إذا نازعوه العظمة (3) .
وقال القرطبي: المتكبر الذي تكبر بربوبيته فلا شيء مثله وقيل: المتكبر عن كل سوء، المتعظم عما لا يليق به من صفات الحدث والذم وأصل الكبر والكبرياء الامتناع وقلة الانقياد. قال حمد بن ثور:
عفت مثل ما يعفو الفصيل فأصبحت | بها كبرياء الصعب وهي ذلول (4) |
وقال عبد الله النسفي: هو البليغ الكبرياء والعظمة (5) .
وأما ما قاله العلماء في معنى اسمه (الكبير) فإنه مشابه لما ذكرنا من معنى (المتكبر).
قال ابن جرير: الكبير يعني العظيم الذي كل شيء دونه ولا شيء أعظم منه (6) .
وقال الخطابي: الكبير هو الموصوف بالجلال وكبر الشأن فصغر دون جلاله كل كبير، ويقال: هو الذي كبر عن شبه المخلوقين (7) .
وعلى هذا يكون معنى (المتكبر) و(الكبير):
1- الذي تكبر عن كل سوء وشر وظلم.
2- الذي تكبر وتعالى عن صفات الخلق فلا شيء مثله.
3- الذي كبر وعظم فكل شيء دون جلاله صغير وحقير.
4- الذي له الكبرياء في السماوات والأرض أي السلطان والعظمة.
الحفيظ
قال تعالى: وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ [سبأ: 21].
وقوله: فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف: 64].
قال السعدي رحمه الله: الحفيظ: الذي حفظ ما خلقه، وأحاط علمه بما أوجده، وحفظ أولياءه من وقوعهم في الذنوب والهلكات، ولطف بهم في الحركات، والسكنات، وأحصى على العباد أعمالهم وجزاءها (2)
وذكر للحفيظ معنيين: أحدهما: أنه قد حفظ على عباده ما عملوه من خير، وشر، وطاعة، ومعصية، فإن علمه محيط بجميع أعمالهم ظاهرها، وباطنها وقد كتب ذلك في اللوح المحفوظ، ووكل بالعباد ملائكة كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون، فهذا المعنى من حفظه يقتضي إحاطة علم الله بأحوال العباد كلها ظاهرها، وباطنها، وكتابتها في اللوح المحفوظ، وفي الصحف التي في أيدي الملائكة، وعلمه بمقاديرها، وكمالها، ونقصها، ومقادير جزائها في الثواب والعقاب ثم مجازاته عليها بفضله، وعدله. والمعني الثاني: من معنيي الحفيظ: أنه تعالى الحافظ لعباده من جميع ما يكرهون وحفظه لخلقه نوعان عام وخاص: حفظه لجميع المخلوقات بتيسيره لها ما يقيتها ويحفظ بنيتها، وتمشي إلى هدايته، وإلى مصالحها بإرشاده، وهدايته العامة التي قال عنها: أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه: 50] أي هدى كل مخلوق إلى ما قدر له وقضى له من ضروراته وحاجاته، كالهداية للمأكل، والمشرب، والمنكح، والسعي في أسباب ذلك، وكدفعه عنهم أصناف المكاره، والمضار، وهذا يشترك فيه البر، والفاجر بل الحيوانات، وغيرها، فهو الذي يحفظ السماوات، والأرض أن تزولا، ويحفظ الخلائق بنعمه، وقد وكل بالآدمي حفظة من الملائكة الكرام يحفظونه من أمر الله، أي يدفعون عنه كل ما يضره مما هو بصدد أن يضره لولا حفظ الله. والنوع الثاني: حفظه الخاص لأوليائه سوى ما تقدم، بحفظهم عما يضر إيمانهم أو يزلزل إيقانهم من الشبه، والفتن، والشهوات فيعافيهم منها ويخرجهم منها بسلامة وحفظ وعافية، ويحفظهم من أعدائهم من الجن والإنس فينصرهم عليهم ويدفع عنهم كيدهم، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [الحج: 38] وهذا عام في دفع جميع ما يضرهم في دينهم ودنياهم فعلى حسب ما عند العبد من الإيمان تكون مدافعة الله عنه بلطفه، وفي الحديث: ((احفظ الله يحفظك)) (1) . أي احفظ أوامره بالامتثال ونواهيه بالاجتناب، وحدوده بعدم تعديها، يحفظك في نفسك ودينك ومالك وولدك، وفي جميع ما آتاك الله من فضله.
المقيت
قال تعالى: مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا [النساء: 85].
قال ابن جرير رحمه الله: (اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا [النساء: 85].
فقال بعضهم تأويله: وكان الله على كل شيء حفيظاً وشهيداً.
وقال آخرون معنى ذلك: القائم على كل شيء بالتدبير وقال آخرون: هو القدير).
ثم قال: (والصواب من هذه الأقوال، قول من قال: معنى المقيت القدير، وذلك فيما يذكر كذلك بلغة قريش وينشد للزبير بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وذي ضغن كففت النفس عنه | وكنت على مساءته مقيتاً |
وقد قيل: إن منه قول النبي صلى الله عليه وسلم ((كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقيت)) (1) .
وفي رواية من رواها (يقيت) يعني: من هو تحت يديه وفي سلطانه من أهله وعياله، فيقدر له قوته، يقال منه أقات فلان الشيء يقيته إقاته، ووقاته يقوته قياتة، والقوت الاسم.
واختار أن معنى (المقيت): القدير، الفراء (2) ، والخطابي (3) ، وابن قتيبة (4) .
قال ابن العربي: (وقد قال علماء اللغة أنه بمعنى (القادر) وليس فيه على هذا أكثر من السماع، فلو رجعنا إلى الاستقراء وتتبع مسالك النظر لجعلناه في موارده كلها بمعنى القوت، ولكن السماع يقضي على النظر.
وعلى القول بأنه (القادر) يكون من صفات الذات.
وإن قلنا إنه اسم للذي يعطي القوت فهو اسم للوهاب والرزاق، ويكون من صفات الأفعال) اهـ (5) .
وقال القرطبي: (بعد أن ذكر المعنى اللغوي: فالمعنى أن الله تعالى يعطي كل إنسان وحيوان قوته على مر الأوقات، شيئاً بعد شيء، فهو يمدها في كل وقت بما جعله قواماً لها، إلى أن يريد إبطال شيء منها فيحبس عنه ما جعله مادة لبقائه فيهلك) اهـ (6) .
وقال في التفسير: (وقال أبو عبيدة: (المقيت: الحافظ)، وقال الكسائي: (المقيت: المقتدر).
وقال النحاس: (وقول أبي عبيدة أولى؛ لأنه مشتق من القوت، والقوت معناه مقدار ما يحفظ الإنسان) (7) .
وفي المقصد: (المقيت معناه خالق الأقوات، وموصلها إلى الأبدان وهي الأطعمة، وإلى القلوب وهي المعرفة، فيكون بمعنى (الرزاق) إلا أنه أخص منه إذ الرزق يتناول القوت وغير القوت، والقوت ما يكتفي به في قوام البدن.
وأما أن يكون بمعنى المستولي على الشيء، القادر عليه، والاستيلاء يتم بالقدرة والعلم، وعليه يدل قوله تعالى: وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا [النساء: 85]، أي: مطلعاً قادراً، فيكون معناه راجعاً على القدرة والعلم.
... ويكون بهذا المعنى وصفه بـــ (المقيت) أتم من وصفه بالقادر وحده وبالعالم وحده، لأنه دال على اجتماع المعنيين، وبذلك يخرج هذا الاسم عن الترادف) اهـ (8) .
وقال عبد الرحمن السعدي رحمه الله: (المقيت الذي أوصل إلى كل موجود ما به يقتات، وأوصل إليها أرزاقها، وصرفها كيف يشاء بحكمته وحمده).
الحسيب
قال تعالى: إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا [النساء: 86] وقال سبحانه: وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيبًا [النساء:4]
قال الزجاجي رحمه الله: ("الحسيب" يجوز أن يكون من حسبت الحساب، ويجوز أن يكون أحسبني الشيء إذا كفاني. فالله تعالى "محسب" أي: كاف فيكون فعيلاً في معنى مفعل كأليم ونحوه) (1) .
وقال الطبري رحمه الله تعالى في قوله تعالى: وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيبًا [الأحزاب: 39]، أي: وكفاك يا محمد بالله حافظاً لأعمال خلقه ومحاسباً عليهم) (2) .
وقال الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى- في نونيته:
(وهو الحسيب كفاية وحماية | والحسب كافي العبد كل أوان) (3) |
وقال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: ("الحسيب": هو العليم بعباده، كافي المتوكلين، المجازي لعباده بالخير والشر بحسب حكمته وعلمه بدقيق أعمالهم وجليلها) (4) .
وقال أيضاً: (والحسيب بمعنى الرقيب الحاسب لعباده المتولي جزاءهم بالعدل، وبالفضل، وبمعنى الكافي عبده همومه، وغمومه. وأخص من ذلك أنه الحسيب للمتوكلين: وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: 30]، أي: كافيه أمور دينه ودنياه) (5).
وقال كذلك: (والحسيب أيضاً هو الذي يحفظ أعمال عباده من خير، وشر، ويحاسبهم إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال: 64]، أي: كافيك وكافي أتباعك، فكفاية الله لعبده بحسب ما قام به في متابعة الرسول ظاهراً وباطناً، وقيامه بعبودية الله تعالى) (6) .
وقال في موطن آخر: إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا [النساء: 86]، فيحفظ على العباد أعمالهم حسنها وسيئها، صغيرها وكبيرها ثم يجازيهم بما اقتضاه فضله وعدله وحكمه المحمود) (7) .
وقال الخطابي رحمه الله تعالى: (الحسيب هو المكافئ فعيل بمعنى فعل كقولك: أليم بمعنى مؤلم، تقول العرب: نزلت بفلان فأكرمني وأحسبني أي أعطاني ما كفاني حتى قلت: حسبي، والحسيب أيضاً بمعنى المحاسب، كقولهم: وزير ونديم بمعنى موازر ومنادم ومنه قول الله سبحانه: كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء: 14] أي: محاسباً والله أعلم) (8) .
مما سبق من الأقوال يتحصل لنا في معنى (الحسيب) معنيان:
الأول: بمعنى الكافي والحافط.
الثاني: بمعنى المحاسب.
الكريم
قال تعالى: فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون: 116].
وقوله: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الانفطار: 6].
قال ابن جرير: ("كريم" ومن كرمه إفضاله على من يكفر نعمه، ويجعلها وصلة يتوصل بها إلى معاصيه) (1) .
وقال الحليمي: ("الكريم" ومعناه: النفاع، من قولهم: شاة كريمة، إذا كانت غزيرة اللبن تدر على الحالب، ولا تقلص بأخلافها، ولا تحبس لبنها).
ولا شك في كثرة المنافع التي منَّ الله تعالى بها على عباده، ابتداء منه وتفضلاً، فهو باسم الكريم أحق من كل كريم (2) .
وقال القرطبي بعد أن ذكر أن الكريم له ثلاثة أوجه هي: الجواد والصفوح والعزيز: (وهذه الأوجه الثلاثة يجوز وصف الله عز وجل بها، فعلى أنه جواد كثير الخير، صفوح لابد من متعلق يصفح عنه وينعم عليه.
وإذا كان بمعنى العزيز كان غير مقتض مفعولاً في أحد وجوهه.
فهذا الاسم متردد بين أن يكون من أسماء الذات، وبين أن يكون من أسماء الأفعال.
والله جل وعز لم يزل كريماً ولا يزال، ووصفه بأنه كريم هو بمعنى نفي النقائص عنه، ووصفه بجميع المحامد، وعلى هذا الوصف يكون من أسماء الذات، إذ ذلك راجع إلى شرفه في ذاته وجلالة صفاته.
وإذا كان فعلياً كان معنى كرمه ما يصدر عنه من الإفضال والإنعام على خلقه.
وإن أردت التفرقة بين (الأكرم) و(الكريم)، جعلت الأكرم الوصف الذاتي، والكريم الوصف الفعلي) (3) اهـ.
وقد حكى ابن العربي رحمه الله في معنى (الكريم) ستة عشر قولاً، نوردها باختصار:
الأول: الذي يعطي لا لعوض.
الثاني: الذي يعطي بغير سبب.
الثالث: الذي لا يحتاج إلى الوسيلة.
الرابع: الذي لا يبالي من أعطى ولا من يحسن، كان مؤمناً أو كافراً، مقراً أو جاحداً.
الخامس: الذي يستبشر بقبول عطائه ويسر به.
السادس: الذي يعطي ويثني، كما فعل بأوليائه حبب إليهم الإيمان وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، ثم قال: أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الحجرات: 7-8].
ويحكى أن الجنيد سمع رجلاً يقرأ : إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ [ص: 44]، فقال: سبحان الله! أعطى وأثنى، المعنى: أنه الذي وهب الصبر وأعطاه، ثم مدحه به وأثنى.
السابع: أنه الذي يعم عطاؤه المحتاجين وغيرهم.
الثامن: أنه الذي يعطي من يلومه.
التاسع: أنه الذي يعطي قبل السؤال، قال الله العظيم: وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا [إبراهيم: 34].
العاشر: الذي يعطي بالتعرض.
الحادي عشر: أنه الذي إذا قدر عفى.
الثاني عشر: أنه الذي إذا وعد وفى.
الثالث عشر: أنه الذي ترفع إليه كل حاجة صغيرة كانت أو كبيرة.
الرابع عشر: أنه الذي لا يضيع من توسل إليه ولا يترك من التجأ إليه.
الخامس عشر: أنه الذي لا يعاتب.
السادس عشر: أنه الذي لا يعاقب) اهـ (4) .
أما (الأكرم)، فقال الخطابي: (هو أكرم الأكرمين، لا يوازيه كريم، ولا يعادله نظير، وقد يكون (الأكرم) بمعنى: الكريم، كما جاء: الأعز والأطول، بمعنى العزيز والطويل) (5) .
قال القرطبي: (إن "الأكرم" الوصف الذاتي و"الكريم" الوصف الفعلي وهما مشتقان من الكرم، وإن اختلفا في الصيغة).
الرقيب الشهيد
قال تعالى: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [المائدة: 117].
قال السعدي رحمه الله: الرقيب والشهيد من أسمائه الحسنى وهما مترادفان، وكلاهما يدل على إحاطة سمع الله بالمسموعات وبصره بالمبصرات، وعلمه بجميع المعلومات الجلية والخفية، وهو الرقيب على ما دار في الخواطر، وما تحركت به اللواحظ، ومن باب أولى الأفعال الظاهرة بالأركان (1) وقال في موضع آخر: والرقيب المطلع على ما أكنته الصدور، القائم على كل نفس بما كسبت، الذي حفظ المخلوقات وأجراها على أحسن نظام وأكمل تدبير (2) وقال أيضاً: قال الله تعالى: إن الله كان عليكم رقيبا والله على كل شيء شهيد (النساء) ولهذا كانت المراقبة التي هي من أعلى أعمال القلوب هي التعبد لله باسمه الرقيب الشهيد، فمتى علم العبد أن حركاته الظاهرة، والباطنة قد أحاط الله بعلمها، واستحضر هذا العلم في كل أحواله، أوجب له ذلك حراسة باطنة عن كل فكر، وهاجس يبغضه الله، وحفظ ظاهره عن كل قول أو فعل يسخط الله وتعبد بمقام الإحسان فعبد الله كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإنه يراه.
القريب، المجيب
قال تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة: 186].
(القريب): هو الذي ليس ببعيد فالله عز وجل قريب من عباده ... أي: أنا قريب الإجابة، وهو مثل قوله –عز وجل- وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ [الحديد: 4]. وكما قال –عز وجل-: مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [المجادلة: 9].
وكما قال –عز وجل-: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: 16].
قال ابن القيم:
وهو القريب وقربه المختص بـــــ | ــــــــالداعي وعباده على الإيمان |
فقربه سبحانه وتعالى نوعان:
1- قرب عام: وهو إحاطة علمه بجميع الأشياء، وهو أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد، وهو بمعنى المعية العامة.
2- قرب خاص بالداعين والعابدين، هو قرب يقتضي المحبة والنصرة، والتأييد في الحركات والسكنات، والإجابة للداعين، والقبول والإنابة للعابدين (1) .
قال تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة: 186].
وإذا فهم القرب بهذا المعنى في العموم والخصوص لم يكن هناك تعارض أصلاً بينه وبين ما هو معلوم من وجوده تعالى فوق عرشه فسبحان من هو علي في دنوه قريب في علوه (2) .
فالله عز وجل قريب ممن دعاه بإجابته، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فكانوا يرفعون أصواتهم بالتكبير، فقال: ((يا أيها الناس أربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنما تدعون سميعاً قريباً، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته)) (3) .
وكذلك قول صالح -عليه السلام- لقومه، في القرآن الكريم فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ [هود: 61]. فقوله قريب مجيب مقرون بالتوبة والاستغفار، أراد قريب مجيب لاستغفار المستغفرين التائبين إليه.
أما المجيب فاسم فاعل من أجاب يجيب فهو مجيب. فالله –عز وجل- مجيب دعاء عباده إذا دعوه كما قال –عز وجل-: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة: 186].
فهو سبحانه وتعالى: المجيب الذي يجيب المضطر إذا دعاه، ويغيث الملهوف إذا ناداه، ويقابل مسألة السائلين بالإسعاف، ودعاء الداعين بالإجابة، وضرورة المضطرين بالكفاية، بل ينعم قبل النداء، ويتفضل قبل الدعاء.
قال ابن القيم:
وهو المجيب يقول من يدعو أجيبــــ | ـــــــه أنا المجيب لكل من ناداني | |
وهو المجيب لدعوة المضطر إذ | يدعوه في سر وفي إعلان |
إجابة الله -عز وجل- لعباده نوعان:
1- إجابة عامة لكل من دعاه دعاء عبادة أو دعاء مسألة، قال تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60] فدعاء المسألة أن يقول العبد اللهم أعطني كذا أو اللهم ادفع عني كذا، وهذا يقع من البر والفاجر، ويستجيب الله فيه لكل من دعاه بحسب الحال المقتضية وبحسب ما تقتضيه حكمته، وهذا يستدل به على كرم المولى وشمول إحسانه للبر والفاجر، ولا يدل بمجرده على حسن حال الداعي الذي أجيبت دعوته إن لم يقترن بذلك ما يدل عليه وعلى صدقه وتعين الحق معه، كسؤال الأنبياء ودعائهم لقومهم وعلى قومهم فيجيبهم الله، فإنه يدل على صدقهم فيما أخبروا به وكرامتهم على ربهم، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يدعو بدعاء يشاهد المسلمون وغيرهم إجابته، وذلك من دلائل نبوته وآيات صدقه، وكذلك ما يذكرونه عن كثير من أولياء الله من إجابة الدعوات، فإنه من أدلة كراماتهم على الله.
2- إجابة خاصة ولها أسباب عديدة، منها دعوة المضطر الذي وقع في شدة وكربة عظيمة، فإن الله يجيب دعوته، قال تعالى: أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ [النمل: 62].
وسبب ذلك شدة الافتقار إلى الله وقوة الانكسار وانقطاع تعلقه بالمخلوقين، ولسعة رحمة الله التي يشمل بها الخلق بحسب حاجتهم إليها، فكيف بمن اضطر إليها، ومن أسباب الإجابة طول السفر، والتوسل إلى الله بأحب الوسائل إليه من أسمائه وصفاته ونعمه، وكذلك دعوة المريض والمظلوم والصائم والوالد على ولده أو له وفي الأوقات والأحوال الشريفة.
قال الشاعر:
مجيب السائلين.. حملت ذنبي | وسرت على الطريق إلى حماكا | |
ورحت أدق بابك مستجيراً | ومعتذراً... ومنتظراً رضاكا | |
دعوتك يا مفرج كل كرب | ولست ترد مكروباً دعاكا | |
وتبت إليك.. توبة من تراه | غريقاً في الدموع.. ولا يراكا |
الواسع
قال تعالى: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة: 54].
قال في اللسان: (الواسع هو الذي وسع رزقه جميع خلقه، ووسعت رحمته كل شيء، وغناه كل فقر) (1) .
ويقول الخطابي رحمه الله: (الواسع: هو الغني الذي وسع غناه مفاقر عباده، ووسع رزقه جميع خلقه، والسعة في كلام العرب: الغنى. ويقال: الله يعطي عن سعة أي عن غنى) (2) .
ويقول الطبري – رحمه الله – عند قوله تعالى: إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 115]: (يعني جل ثناؤه بقوله: واسع أي: يسع خلقه كلهم بالكفاية والاتصال والجود والتدبير) (3) .
ويقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: (الواسع الصفات والنعوت ومتعلقاتها بحيث لا يحصي أحد ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، واسع العظمة والسلطان والملك، واسع الفضل والإحسان، عظيم الجود والكرم) (4) .
ويلاحظ في هذا المعنى أن كل واحد منها أخذ ببعض معان ومقتضيات هذا الاسم الجليل، وإلا فاسم (الواسع) يشمل – كما قال الشيخ السعدي – جميع الصفات والنعوت، فهو الواسع في علمه، وهو الواسع في غناه، وهو الواسع في فضله وإنعامه وجوده، وهو الواسع في قوته وعظمته وجبروته، وهو الواسع في قدرته، الواسع في حكمته، وهو الواسع في مغفرته ورحمته
الحكم الحكيم
قال تعالى: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا [الأنعام: 114].
وقوله: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة: 228، 240].
قال ابن جرير في تفسير قوله تعالى: أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا [الأنعام: 114]: قل فليس لي أن أتعدى حكمه وأتجاوزه لأنه لا حكم أعدل منه ولا قائل أصدق منه (1) .
قال القرطبي: والمعنى أفغير الله أطلب لكم حاكماً (2) .
وقال الخطابي: الحكم الحاكم ومنه المثل (في بيته يؤتى الحكم) وحقيقته هو الذي سلم له الحكم ورد إليه فيه الأمر، كقوله تعالى: لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص: 88] وقوله: أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [الزمر: 46] (3) .
قال ابن كثير: وقوله تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ [التين: 8] أي أما هو أحكم الحاكمين الذي لا يجور ولا يظلم أحداً (4) .
وقال الحليمي معنى (الحكم): وهو الذي إليه الحكم وأصل الحكم منع الفساد، وشرائع الله تعالى كلها استصلاح العباد (5) (10)
وأما عن معنى الحكيم: فقد قال الزجاج: الحكيم من الرجال يجوز أن يكون فعيلاً في معنى فاعل، ويجوز أن يكون في معنى مفعل، والله حاكم وحكيم.
والأشبه أن تحمل كل واحد منهما على معنى غير معنى الآخر، ليكون أكثر فائدة، فحكيم بمعنى محكم والله تعالى محكم للأشياء، متقن لها كما قال تعالى : صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [النمل: 88]. اهـ (6) .
وقال ابن جرير: الحكيم الذي لا يدخل تدبيره خلل ولا زلل.
وقال في موضع: حكيم فيما قضى بين عباده من قضاياه (7) .
قال ابن كثير: الحكيم في أفعاله وأقواله فيضع الأشياء في محالها بحكمته وعدله (8) .
وقال الحليمي: (الحكيم) ومعناه الذي لا يقول ولا يفعل إلا الصواب، وإنما ينبغي أن يوصف بذلك لأن أفعاله سديدة، وصنعه متقن، ولا يظهر الفعل المتقن السديد إلا من حكيم، كما لا يظهر الفعل على وجه الاختيار إلا من وحي عالم قدير
الودود
يوصف الله عزَّ وجلَّ بأنه الوَدُود، الذي يَوَدُّ ويحبُّ عباده الصالحين ويودونه، وهذا ثابت بالكتاب العزيز، و(الوَدُودُ) من أسمائه تعالى.
· الدليل:
1- قولـه تعالى: وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ [هود: 90].
2- و قولـه: وَهُوَ الْغَفُورُ الوَدُود [البروج: 14].
الوِدُّ والمَوَدَّة: الحب والمحبة، والوَدُودُ: الـمُحِبُّ. انظر: (لسان العرب).
قال أبو القاسم الزجاجي: (الوَدُودُ: فيه قولان:
أحدهما: أنه فعولٌ بمعنى فاعلٍ؛ كقولك: غفورٌ بمعنى غافر، وكما قالوا: رجلٌ صَبورٌ بمعنى صابر، وشَكورٌ بمعنى شاكر، فيكون الوَدُودُ في صفات الله تعالى عزَّ وجلَّ على هذا المذهب أنه يودُّ عبادهُ الصالحينَ ويُحبهم، والودُّ والمودةُ والمحبة في المعنى سواءٌ؛ فالله عزَّ وجلَّ ودودٌ لأوليائه والصالحين من عباده، وهو مُحِبٌّ لهم.
والقول الآخر: أنه فعولٌ بمعنى مفعولٍ؛ كما يقال: رجل هيوبٌ؛ أي: مهيبٌ، فتقديره: أنه عزَّ وجلَّ مودودٌ؛ أي: يوده عباده ويحبونه وهما وجهان جيدان.
وقد تأتي الصِّفة بالفعل لله عزَّ وجلَّ ولعبده، فيقال: العبد شكور للهِ؛ أي: يشكر نعمته، والله عزَّ وجلَّ شكورٌ للعبد؛ أي: يشكر له عمله؛ أي: يجازيه على عمله، والعبد توابٌ إلى الله من ذنبه، والله تَوَّابٌ عليه؛ أي: يقبل توبته ويعفو عنه) (2) .
وقال ابن القيم: (الوَدُودُ الـمُتَوَدِّدُ إلى عباده بنعمه الذي يَوَدُّ من تاب إليه وأقبل عليه وهو الوَدُودُ أيضاً أي المحبوب قال البخاري في (صحيحه) الوَدُودُ: الحبيب. والتحقيق أنَّ اللفظ يدل على الأمرين على كونه وادًّا لأوليائه ومَوْدُودَاً لهم فأحدهما بالوضع والآخر باللزوم فهو الحبيب المحب لأوليائه يحبهم ويحبونه)
المجيد
قال تعالى: وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ [البروج: 14، 15].
قال ابن القيم رحمه الله: وصف- الله تعالى - نفسه بالمجيد وهو المتضمن لكثرة صفات كماله وسعتها وعدم إحصاء الخلق لها وسعة أفعاله وكثرة خيره ودوامه وأما من ليس له صفات كمال ولا أفعال حميدة فليس له من المجد شيء والمخلوق إنما يصير مجيداً بأوصافه وأفعاله فكيف يكون الرب تبارك وتعالى مجيداً وهو معطل عن الأوصاف والأفعال تعالى الله عما يقول المعطلون علواً كبيراً بل هو المجيد الفعال لما يريد والمجد في لغة العرب كثرة أوصاف الكمال وكثرة أفعال الخير وأحسن ما قرن اسم المجيد إلى الحميد كما قالت الملائكة لبيت الخليل عليه السلام : رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ [هود: 73] وكما شرع لنا في آخر الصلاة أن نثني على الرب تعالى بأنه حميد مجيد وشرع في آخر الركعة عند الاعتدال أن نقول ربنا ولك الحمد أهل الثناء والمجد فالحمد والمجد على الإطلاق لله الحميد المجيد فالحميد الحبيب المستحق لجميع صفات الكمال والمجيد العظيم الواسع القادر الغني ذو الجلال والإكرام.
ومن قرأ المجيد بالكسر فهو صفة لعرشه سبحانه وإذا كان عرشه مجيداً فهو سبحانه أحق بالمجد وقد استشكل هذه القراءة بعض الناس وقال لم يسمع في صفات الخلق مجيد ثم خرجها على أحد الوجهين إما على الجوار وإما أن يكون صفة لربك وهذا من قلة بضاعة هذا القائل فإن الله سبحانه وصف عرشه بالكرم وهو نظير المجد ووصفه بالعظمة فوصفه سبحانه بالمجد مطابق لوصفه بالعظمة والكرم بل هو أحق المخلوقات أن يوصف بذلك لسعته وحسنه وبهاء منظره فإنه أوسع كل شيء في المخلوقات وأجمله وأجمعه لصفات الحسن وبهاء المنظر وعلو القدر والرتبة والذات ولا يقدر قدر عظمته وحسنه وبهاء منظره إلا الله ومجده مستفاد من مجد خالقه ومبدعه والسماوات السبع والأرضون السبع في الكرسي الذي بين يديه كحلقة ملقاة في أرض فلاة والكرسي فيه كتلك الحلقة في الفلاة قال ابن عباس السماوات السبع في العرش كسبعة دراهم جعلن في ترس فكيف لا يكون مجيداً وهذا شأنه فهو عظيم كريم مجيد .
الواسع
قال تعالى: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة: 54].
قال في اللسان: (الواسع هو الذي وسع رزقه جميع خلقه، ووسعت رحمته كل شيء، وغناه كل فقر) (1) .
ويقول الخطابي رحمه الله: (الواسع: هو الغني الذي وسع غناه مفاقر عباده، ووسع رزقه جميع خلقه، والسعة في كلام العرب: الغنى. ويقال: الله يعطي عن سعة أي عن غنى) (2) .
ويقول الطبري – رحمه الله – عند قوله تعالى: إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 115]: (يعني جل ثناؤه بقوله: واسع أي: يسع خلقه كلهم بالكفاية والاتصال والجود والتدبير) (3) .
ويقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: (الواسع الصفات والنعوت ومتعلقاتها بحيث لا يحصي أحد ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، واسع العظمة والسلطان والملك، واسع الفضل والإحسان، عظيم الجود والكرم) (4) .
ويلاحظ في هذا المعنى أن كل واحد منها أخذ ببعض معان ومقتضيات هذا الاسم الجليل، وإلا فاسم (الواسع) يشمل – كما قال الشيخ السعدي – جميع الصفات والنعوت، فهو الواسع في علمه، وهو الواسع في غناه، وهو الواسع في فضله وإنعامه وجوده، وهو الواسع في قوته وعظمته وجبروته، وهو الواسع في قدرته، الواسع في حكمته، وهو الواسع في مغفرته ورحمته.
الحكم الحكيم
قال تعالى: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا [الأنعام: 114].
وقوله: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة: 228، 240].
قال ابن جرير في تفسير قوله تعالى: أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا [الأنعام: 114]: قل فليس لي أن أتعدى حكمه وأتجاوزه لأنه لا حكم أعدل منه ولا قائل أصدق منه (1) .
قال القرطبي: والمعنى أفغير الله أطلب لكم حاكماً (2) .
وقال الخطابي: الحكم الحاكم ومنه المثل (في بيته يؤتى الحكم) وحقيقته هو الذي سلم له الحكم ورد إليه فيه الأمر، كقوله تعالى: لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص: 88] وقوله: أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [الزمر: 46] (3) .
قال ابن كثير: وقوله تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ [التين: 8] أي أما هو أحكم الحاكمين الذي لا يجور ولا يظلم أحداً (4) .
وقال الحليمي معنى (الحكم): وهو الذي إليه الحكم وأصل الحكم منع الفساد، وشرائع الله تعالى كلها استصلاح العباد (5) (10)
وأما عن معنى الحكيم: فقد قال الزجاج: الحكيم من الرجال يجوز أن يكون فعيلاً في معنى فاعل، ويجوز أن يكون في معنى مفعل، والله حاكم وحكيم.
والأشبه أن تحمل كل واحد منهما على معنى غير معنى الآخر، ليكون أكثر فائدة، فحكيم بمعنى محكم والله تعالى محكم للأشياء، متقن لها كما قال تعالى: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [النمل: 88]. اهـ (6) .
وقال ابن جرير: الحكيم الذي لا يدخل تدبيره خلل ولا زلل.
وقال في موضع: حكيم فيما قضى بين عباده من قضاياه (7) .
قال ابن كثير: الحكيم في أفعاله وأقواله فيضع الأشياء في محالها بحكمته وعدله (8) .
وقال الحليمي: (الحكيم) ومعناه الذي لا يقول ولا يفعل إلا الصواب، وإنما ينبغي أن يوصف بذلك لأن أفعاله سديدة، وصنعه متقن، ولا يظهر الفعل المتقن السديد إلا من حكيم، كما لا يظهر الفعل على وجه الاختيار إلا من وحي عالم قدير.
الودود
يوصف الله عزَّ وجلَّ بأنه الوَدُود، الذي يَوَدُّ ويحبُّ عباده الصالحين ويودونه، وهذا ثابت بالكتاب العزيز، و(الوَدُودُ) من أسمائه تعالى.
· الدليل:
1- قولـه تعالى: وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ [هود: 90].
2- و قولـه: وَهُوَ الْغَفُورُ الوَدُود [البروج: 14].
الوِدُّ والمَوَدَّة: الحب والمحبة، والوَدُودُ: الـمُحِبُّ. انظر: (لسان العرب).
قال أبو القاسم الزجاجي: (الوَدُودُ: فيه قولان:
أحدهما: أنه فعولٌ بمعنى فاعلٍ؛ كقولك: غفورٌ بمعنى غافر، وكما قالوا: رجلٌ صَبورٌ بمعنى صابر، وشَكورٌ بمعنى شاكر، فيكون الوَدُودُ في صفات الله تعالى عزَّ وجلَّ على هذا المذهب أنه يودُّ عبادهُ الصالحينَ ويُحبهم، والودُّ والمودةُ والمحبة في المعنى سواءٌ؛ فالله عزَّ وجلَّ ودودٌ لأوليائه والصالحين من عباده، وهو مُحِبٌّ لهم.
والقول الآخر: أنه فعولٌ بمعنى مفعولٍ؛ كما يقال: رجل هيوبٌ؛ أي: مهيبٌ، فتقديره: أنه عزَّ وجلَّ مودودٌ؛ أي: يوده عباده ويحبونه وهما وجهان جيدان.
وقد تأتي الصِّفة بالفعل لله عزَّ وجلَّ ولعبده، فيقال: العبد شكور للهِ؛ أي: يشكر نعمته، والله عزَّ وجلَّ شكورٌ للعبد؛ أي: يشكر له عمله؛ أي: يجازيه على عمله، والعبد توابٌ إلى الله من ذنبه، والله تَوَّابٌ عليه؛ أي: يقبل توبته ويعفو عنه) (2) .
وقال ابن القيم: (الوَدُودُ الـمُتَوَدِّدُ إلى عباده بنعمه الذي يَوَدُّ من تاب إليه وأقبل عليه وهو الوَدُودُ أيضاً أي المحبوب قال البخاري في (صحيحه) الوَدُودُ: الحبيب. والتحقيق أنَّ اللفظ يدل على الأمرين على كونه وادًّا لأوليائه ومَوْدُودَاً لهم فأحدهما بالوضع والآخر باللزوم فهو الحبيب المحب لأوليائه يحبهم ويحبونه).
المجيد
قال تعالى: وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ [البروج: 14، 15].
قال ابن القيم رحمه الله: وصف- الله تعالى - نفسه بالمجيد وهو المتضمن لكثرة صفات كماله وسعتها وعدم إحصاء الخلق لها وسعة أفعاله وكثرة خيره ودوامه وأما من ليس له صفات كمال ولا أفعال حميدة فليس له من المجد شيء والمخلوق إنما يصير مجيداً بأوصافه وأفعاله فكيف يكون الرب تبارك وتعالى مجيداً وهو معطل عن الأوصاف والأفعال تعالى الله عما يقول المعطلون علواً كبيراً بل هو المجيد الفعال لما يريد والمجد في لغة العرب كثرة أوصاف الكمال وكثرة أفعال الخير وأحسن ما قرن اسم المجيد إلى الحميد كما قالت الملائكة لبيت الخليل عليه السلام: رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ [هود: 73] وكما شرع لنا في آخر الصلاة أن نثني على الرب تعالى بأنه حميد مجيد وشرع في آخر الركعة عند الاعتدال أن نقول ربنا ولك الحمد أهل الثناء والمجد فالحمد والمجد على الإطلاق لله الحميد المجيد فالحميد الحبيب المستحق لجميع صفات الكمال والمجيد العظيم الواسع القادر الغني ذو الجلال والإكرام.
ومن قرأ المجيد بالكسر فهو صفة لعرشه سبحانه وإذا كان عرشه مجيداً فهو سبحانه أحق بالمجد وقد استشكل هذه القراءة بعض الناس وقال لم يسمع في صفات الخلق مجيد ثم خرجها على أحد الوجهين إما على الجوار وإما أن يكون صفة لربك وهذا من قلة بضاعة هذا القائل فإن الله سبحانه وصف عرشه بالكرم وهو نظير المجد ووصفه بالعظمة فوصفه سبحانه بالمجد مطابق لوصفه بالعظمة والكرم بل هو أحق المخلوقات أن يوصف بذلك لسعته وحسنه وبهاء منظره فإنه أوسع كل شيء في المخلوقات وأجمله وأجمعه لصفات الحسن وبهاء المنظر وعلو القدر والرتبة والذات ولا يقدر قدر عظمته وحسنه وبهاء منظره إلا الله ومجده مستفاد من مجد خالقه ومبدعه والسماوات السبع والأرضون السبع في الكرسي الذي بين يديه كحلقة ملقاة في أرض فلاة والكرسي فيه كتلك الحلقة في الفلاة قال ابن عباس السماوات السبع في العرش كسبعة دراهم جعلن في ترس فكيف لا يكون مجيداً وهذا شأنه فهو عظيم كريم مجيد.
الرَّؤوف
قال تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [البقرة: 143].
قال ابن جرير رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ: (إن الله: بجميع عباده ذو رأفه، والرأفة أعلى معاني الرحمة، وهي عامة لجميع الخلق في الدنيا ولبعضهم في الآخرة) (1) .
وقال الخطابي: (-الرؤوف- هو الرحيم العاطف برأفته على عباده، وقال بعضهم: الرأفة أبلغ الرحمة وأرقها، ويقال: إن الرأفة أخص والرحمة أعم، وقد تكون الرحمة في الكراهة للمصلحة، ولا تكاد الرأفة تكون في الكراهة فهذا موضع الفرق بينهما) (2) .
ويؤكد هذا الفرق القرطبي بقوله: (إن الرأفة نعمة ملذة من جميع الوجوه، والرحمة قد تكون مؤلمة في الحال ويكون عقباها لذة، ولذا قال سبحانه: وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور: 2]، ولم يقل: رحمة، فإن ضرب العصاة على عصيانهم رحمة لهم لا رأفة؛ فإن صفة الرأفة إذا انسدلت على مخلوق لم يلحقه مكروه.
فلذلك تقول لمن أصابه بلاء في الدنيا، وفي ضمنه خير في الأخرى: إن الله قد رحمه بهذا البلاء، وتقول لمن أصابه عافية في الدنيا، في ضمنها خير في الأخرى واتصلت له العافية أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً: إن الله قد رأف به) (3) .
قال الأقليشي: (فتأمل هذه التفرقة بين الرأفة والرحمة، ولذلك جاءا معا، فقال: إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ وعلى هذا الرأفة أعم من الرحمة، فمتى أراد الله بعبد رحمة أنعم عليه بها، إلا أنها قد تكون عقيب بلاء، وقد لا تكون، والرأفة بخلاف ذلك)
وَ أَمَّا (المُقْسِـطُ) فَهُوَ الذي يَأْخُذُ قِسْطَهُ وَ حَاجَتَهُ فَقَطْ، تَارِكَاً لِلآخَرِيْنَ أَقْسَاطَهُمْ وَ حَاجَاتِهِمْ لِذَلِكَ : وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ
الحجرات 9 فالذي يَضَعُ النِسَبَ الصَحِيْحَةَ في المَوادِّ قَبْلَ تَصْنِيْعِهَا، ثُمَّ يُقَدِّمُهَا لِلآخَرِيْنَ بِالوَزْنِ الصَحِيْحِ وَ السِعْرِ العَـادِلِ هُوَ (مُقْسِـطٌ) يُحِبُّهُ اللّهُ ،
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا
النساء 135
ومن المعلوم أن أسماء الله توقيفية, بمعنى أن الله لا يسمى إلا بما سمى به نفسه في كتابه، أو سماه به رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، ولا نعلم دليلاً من الكتاب أو حديثا صحيحاً من السنة بإثبات الاسم المشار إليه.
نعم ورد في كتاب الله الإخبار بإنه يعز من يشاء ويذل من يشاء وأنه عز وجل إن يمسس عبده بضر فلا كاشف له إلا الله, وإن يمسسه بخير فلا راد لفضله.
الجامع
قال تعالى:
﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)﴾
فقد جمع القلوب.. فزوج وزوجة.. فهذا من أسرة وهذه من أسرة، هذا من بيئة وهي من بيئة أخرى، هذا له ثقافة مغايرة وهي لها ثقافة، يتزاوجان، فتجد أقرب إنسان للرجل في الحياة زوجته وأقرب رجل في حياتها زوجها، فمن ألَّف بين القلوب فقد قال تعالى:
﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)﴾ (سورة الروم)
من آياته الدالَّة على عظمته، أنّ الإنسان يلتقي مع شبيهه، مع مثيله أو صنفه، مع من يلتقي ؟ يلتي مع من يشبهه في فكره وفي قيمه وفي أخلاقه فمن ألَّف بين القلوب ومن جمع بين الشتات ؟ هذا من معاني اسم الجامع.
لو فرضنا طائرة احترقت ومات فيها إنساناً، فكيف يجمع الله رفاته ؟ رفاته التي احترقت تجمع يوم القيامة فقد قال تعالى:
﴿بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4)﴾ (سورة القيامة)
كيف ؟.. وقد قال تعالى:
﴿هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38)﴾ (سورة المرسلات)
الجمع واسع جداً.. جمع خلقه، جمعهم في الدنيا، فقهرهم على أن يجتمعوا.. ولندقق متأمّلين.. قهرهم على أن يجتمعوا، فالإنسان مهما كان ذكياً فهل بإمكانه أن يعيش وحده ؟ فهو يحتاج إلى خبزٍ ليأكله، فلو كان يعيش وحده لاحتاج إلى أن يزرع، أن يحرث الأرض وأن يسمِّدها ويقلِّبها ويحصد محصولها، وأن يطحن وأن يخبز فمعنى ذلك يبذل جهداً مستحيلاً، ويحتاج إلى ثياب، لكنَّ الله سمح لك أن تُتقن حاجة وأن تفتقر إلى الكثير من الحاجات، فأنت مقهور أن تجتمع فهو الذي جمعنا مع بعضنا بعضاً، قال تعالى:
﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140)﴾ (سورة النساء)
﴿ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ﴾ يجمع ويُفرِّق، يؤلِّف ويُحبب.
وقيل: " الجامع هو الذي يجمع أجزاء الخلق بعد تفرُّقها عند الحشر والنشر للحساب والجزاء، أو يجمع الخلق في موقف القيامة
الغنى المغني
صفةٌ ذاتيَّةٌ ثابتةٌ لله عزَّ وجلَّ بالكتاب والسنة، و(الْغَنِيُّ) من أسماء الله تعالى.
1- قولـه تعالى: وَالله هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر: 15].
2- وقولـه تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ [التوبة: 28].
3- وقولـه: وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى [الضحى: 8].
1- حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: ((بينا أيـوب عليه السـلام يغتسل عرياناً... فناداه ربه عزَّ وجلَّ: يا أيوب! ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال: بلى وعِزَّتِكَ...)) )
2- حديث: ((... ومن يستعفف؛ يعفه الله، ومن يستغن؛ يغنه الله...))
3- حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك...))
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
(والفَقْرُ لِي وَصْفُ ذَاتٍ لاَزِمٌ أبَداً | كَمَا أَنَّ الغِنى أَبداً وَصْفٌ لَهُ ذَاتِي)) (5) |
وقال الحافظ ابن القيم:
((وَهُوَ الغَنِيُّ بِذَاتِهِ فَغِنَاهُ ذَا | تِيٌّ لَهُ كَالجُود وَالإحْسَانِ)) (6) |
قال الشيخ الهرَّاس في (الشرح): (ومن أسمائه الحسنى (الغني) ؛ فله سبحانه الغنى التام المطلق من كل وجه؛ بحيث لا تشوبه شائبة فقر وحاجة أصلاً، وذلك لأن غناه وصف لازم له، لا ينفك عنه؛ لأنه مقتضى ذاته، وما بالذات لا يمكن أن يزول؛ فيمتنع أن يكون إلا غنيًّا كما يمتنع أن يكون إلا جواداً محسناً برًّا رحيماً كريماً) .
﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (62)) (سورة النمل)
﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ ﴾
أما الأصل أنَّه إذا أراد أن يمنعك يلهمك أسباب المنع.
فمن فهم معنى الحفيظ فهم معنى المنع، المانع هو الحافظ.. قد يتبادر للمرء أنَّ المانع هو الذي لا يُعطي، فهذا معنى، وكذلك المانع هو الحافظ، أنت في حصنٍ منيع، أنت في حرزٍ حريز، أنت لا أحد ينالُك.
قال بعض العلماء: " المنع يضاف إلى السبب المهلك، والحفظ يضاف إلى المحروس عن الهلاك "، أي لو إنساناً محروساً من أن يهلك فهذا محفوظ، وإنسان يمكن أن يهلك فهذا ممنوع..
كلُّ حافظٍ مانع.. ما دام أنَّ الله حفظك فهو يمنعك من خصومك، وليس كل منع حفظاً.. أحياناً يكون المنع عقوبة، قد يحرم المرءُ بعض الرزق بالذنب يصيبه، قد يُحرم المرءُ بعض العلم بالذنب يصيبه، الذنب يمنعك من العلم ويمنعك من الرزق.
يقول بعض العلماء: " المانع يعني أنَّ الممكنات بالنسبة إلى تأثير قدرته على السويَّة.. فدخول بعضها في الوجود دون البعض يكون بتخصيصه أو ترجيحه "، فكل شيء بيد الله عزَّ وجلَّ، والله دائماً قادر على أن يمنعك من أعدائك.
فدخول بعضها في الوجود دون البعض يكون بتخصيصه أو ترجيحه.. كلُّ المؤثرات بيد الله عزَّ وجلَّ، فإذا أطلق واحدة ومنع واحدة فهناك ترجيح عند الله لحكمة، فلو أن شخصاً في جسمه ثلاث جراثيم حرَّك الله واحدة منها والاثنتان لم يحركهما، أجل ثلاث جراثيم، فربما واحدة منهم فعلت فعلها فكل الممكنات بيد الله عزَّ وجلَّ، وكل الأسباب بيد الله أطلق جرثوماً ومنع جرثومين.
وبعد، فالمانع في وصفه سبحانه وتعالى منع البلاء عن أوليائه، أو منع العطاء عمن شاء مطلقاً، فإما أن يمنع العطاء تأديباً أو تحصيناً أو وقايةً بحسب الممنوع منه أو يمنع البلاء عن أوليائه.
(( عَنْ صُهَيْبٍ قَالَ بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدٌ مَعَ أَصْحَابِهِ إِذْ ضَحِكَ فَقَالَ أَلا تَسْأَلُونِي مِمَّ أَضْحَكُ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمِمَّ تَضْحَكُ قَالَ عَجِبْتُ لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ إِنْ أَصَابَهُ مَا يُحِبُّ حَمِدَ اللَّهَ وَكَانَ لَهُ خَيْرٌ وَإِنْ أَصَابَهُ مَا يَكْرَهُ فَصَبَرَ كَانَ لَهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ أَمْرُهُ كُلُّهُ لَهُ خَيْرٌ إِلا الْمُؤْمِنُ ))
بعض العلماء قال: " الله جلَّ جلاله يعطي كلَّ شيءٍ ما هو في مصلحته، بمعنى أنَّ حكمة الله مطلقة، وبمعنى أنَّه ليس في الإمكان أبدعُ مما كان. ويمنع ما هو سبب فساده، يغني من يشاء بالعطاء ويمنع من يشاء بالابتلاء، سبحانه يغني ويفقر، يسعد ويشقي، يعطي ويحرم، يمنح ويمنع فهو المعطي المانع ".﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)﴾ (سورة الأعراف)
لذلك المؤمن مستسلم وصابر لِحكم الله. وحينما يصبر المؤمن لِحكم الله عز وجل فإن الله جل جلاله يتجلّى على قلبه بالسكينة. فالله سبحانه وتعالى يُفقر ؛ وقد يكون الإفقار هو عَيْن العطاء. والله سبحانه وتعالى يُمرض ؛ وقد يكون في المرض الصِّحة النفسية التامة. والله سبحانه وتعالى يُخيف ؛ وقد يكون في الخوف الالتجاء إلى الله عز وجل. والله حكيم يعلم كيف يُداوي، و المكان الذي يُؤلم، ويعلم ما الذي يحمل عبده على التوبة.
﴿قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾( سورة النساء: الآية 78 )
النفع من الله، والضر من الله. - الآن دخلنا في موضوع جديد - لكن سبب الضر مِمَّن ؟ الفاعل هو الله. مثلاً لو أصدر الأستاذ قراراً بِتَرسيب طالب، فالذي أصدر هذا القرار هو المدرِّس أو المدير، لكن لماذا رسَّبه ؟ السبب من الطالب. لذلك ينبغي أن تُراعى الحقيقة في هذا الموضوع، فيجب أن تنسُب الضر - ولو أن الله هو الضار -لِنفسك، ويجب أن تنسب النفع إلى الله عز وجل والدليل قوله تعالى:
﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ(82)﴾ ( سورة الشعراء )
قال: ﴿ وَإِذَا مَرِضْتُ ﴾
ولم يقل وإذا أمرضني ؛ لأن أصل المرض خروج عن منهج الله، والآية الكريمة:
﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً (79)﴾ ( سورة النساء )
فالحسنة من الله فِعلاً، ومن الله تفضلاً. والسيئة من الله فِعلاً، ومن العبد سبباً. لذلك عُزيت السيئات للإنسان.
النقطة الدقيقة أن كل عمَلٍ منسوب إلى الله، حتى فاعلية الأشياء منسوبة إلى الله، فالله تعالى لو لم يشأ للسِّكين أن تقطع لما قطعت، لذلك سكين سيدنا إبراهيم لم تذبح ابنه إسماعيل. والنار التي وُضع بها لم تحرِقه. ويجب أن نعتقد أن فاعلية الأشياء بيد الله لذلك علماء التوحيد لخَّصوا هذه الحقيقة بِكلمة: " عندها لا بها "، أيْ الأشياء تفعل فعلتها بِمشيئة الله لا بقوة فيها، حتى الدواء لا يفعل فِعله حتى يشاء الله، لكُلِّ داءٍ دواء فإذا أصاب دواء الداء، بَرِءَ بإذن الله، حتى الدواء لا يفعل فِعله إلا بِمشيئة الله.
قال بعضهم: الضار ؛ الذي يضر من يشاء من خلقه، حيث هو خالق الأشياء خيرها وشرها، نافعها وضارها، والنافع ؛ هو الذي يوصل النفع إلى من يشاء من خلقه، حيث هو خالق النفع والضر، والخير والشر.
يقول الإمام الرازي: إن الضار النافع وصفان: إما أن يُعتبرا في أحوال الدنيا، أو في أحوال الدين. أما الأول فهو أن الله تعالى مُغنٍ هذا، ومُفقر ذاك ومعطٍ الصحة لهذا والمرض لذاك. وأما في أحوال الدين فهو يهدي هذا إذا شاء الهداية، ويُضِل ذاك إذا أصر على الضلال، تطلب الهدى فَيَهديك، وتطلب الضلال فَيُضلك.
يقول الإمام القشيري: " إن الضار والنافع ؛ اسمان من أسماء الله تعالى، وفي معناهما إشارة إلى التوحيد" ؛ وهو أنه لا يصيب عبداً ضرٌ ولا نفع ولا خيرٌ ولا شرٌ إلا بمشيئة الله. وقضائه وقدرته ؛ فَمن استسلم لِحِكمة الله، عاش في راحة، ومن أبى وقع في كل آفة، ورد في الحديث القدسي:
(( أنا الله لا إله إلا أنا، من لم يستسلم لِقضائي، ولم يصبرعلى بلائي، ولم يشكر على نَعمائي، فَلْيَطلب رباً سواي ))
الهادي
المرتبة الأولى: هداية العلم والبيان. فيجعله عالماً بالحق مدركاً له.
الثانية: أن يقدره عليه. وإلا فهو غير قادر بنفسه.
الثالثة: أن يجعله مريداً له.
الرابعة: أن يجعله فاعلاً له.
الخامسة: أن يثبته على ذلك، ويستمر به إلى الوفاة.
السادسة: أن يصرف عنه الموانع والعوارض المضادة له (1) .
ومعلوم أن وساوس العبد وخواطره، وشهوات الغي في قلبه، كل منها مانع من وصول أثر الهداية إليه، فإن لم يصرفها الله عنه لم يهتد هدى تاماً، فحاجته إلى هداية الله له مقرونة بأنفاسه، وهي أعظم حاجة للعبد (2) .
السابعة: أن يهديه في الطريق نفسها هداية خاصة، أخص من الأولى. فإن الأولى هداية إلى الطريق إجمالاً، وهذه هداية فيها وفي منازلها تفصيلاً (3) .
فإن العبد قد يهتدي إلى طريق قصده، تتميز له الطرق عن غيرها، ولا يهتدي إلى تفاصيل سيره فيها، ولأوقات المسير من غيره، وزاد المسير، وآفات الطرق (4) .
الثامنة: أن يشهده المقصود في الطريق، وينبهه عليه. فيكون مطالعاً له في سيره، وملتفتاً إليه.
التاسعة: أن يشهده فقره وضرورته إلى هذه الهداية، فوق كل ضرورة. في ظاهره وباطنه، في جميع ما يأتيه ويذره. ويدخل في هذا أن يهدي غيره ويعلمه، فيصير هادياً مهدياً، كما في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين))
يعني نهدي غيرنا ونهتدي في أنفسنا، وهذه أفضل الدرجات أن يكون العبد هادياً مهدياً. قال تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا [السجدة: 24] (6) .
العاشرة: أن يشهده طريق المنحرفين عن الهداية. وهما: طريق أهل الغضب، الذين عدلوا عن أتباع الحق قصداً وعناداً؛ وطريق أهل الضلال، الذين عدلوا عنها جهلاً وضلالاً.
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل ربه الهداية، ويحث أصحابه على سؤال الله الهداية.
وليتأمل القارئ اللبيب، الأحاديث التالية:
1- عن أبي ذر رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم – فيما روى عن الله تبارك وتعالى – أنه قال: ((يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم)) .أي: اطلبوا مني الهداية، أوفقكم إلى سلوك طريقها.
2- عن الحسن بن علي رضي الله عنه قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في قنوت الوتر: ((اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت)) (8) .
فقوله: (اهدني) سؤال للهداية المطلقة، التي لا يتخلف عنها الاهتداء.
وقوله: (فيمن هديت) فيه فوائد:
أحدها: أنه سؤال له أن يدخله في جملة المهتدين، وزمرتهم ورفقتهم.
الثانية: توسل إليه بإحسانه وإنعامه، أي إنك قد هديت من عبادك بشراً كثيراً فضلاً منك وإحساناً، فأحسن إلي كما أحسنت إليهم، كما يقول الرجل للملك: اجعلني من جملة من أغنيته وأعطيته وأحسنت إليه.
الثالثة: أن ما حصل لأولئك من الهدى، لم يكن منهم ولا بأنفسهم، وإنما كان منك، فأنت الذي هديتهم (9) .
3- عن علي رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قل: اللهم اهدني وسددني، واذكر بالهدى هدايتك الطريق، والسداد سداد السهم)) (10) .
قال ابن القيم رحمه الله: هذا من أبلغ التعليم والنصح، حيث أمره أن يذكر إذا سأل الله الهدى إلى طريق رضاه وجنته، كونه مسافراً، وقد ضل عن الطريق، ولا يدري أين يتوجه، فطلع له رجل خبير بالطريق، عالم بها، فسأله أن يدله على الطريق، فهكذا شأن طريق الآخرة، تمثيلاً لها بالطريق المحسوس للمسافر؛ وحاجة المسافر إلى الله سبحانه، إلى أن يهديه تلك الطريق، أعظم من حاجة المسافر إلى بلد، إلى من يدله على الطريق الموصل إليها.
وكذلك السداد – وهو إصابة القصد قولاً وعملاً – فمثله مثل رامي السهم إذا وقع سهمه وأصاب، وإذا لم يقع باطلاً؛ فهكذا المصيب للحق في قوله وعمله، بمنزلة المصيب في رميه (11) .
4- عن ابن مسعود رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى)) (12) .
5- عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال: سألت عائشة أم المؤمنين: بأي شيء كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته إذا قام من الليل؟ قالت: كان إذا قام من الليل افتتح صلاته: ((اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة؛ أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)) (13) .
ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء العظيم القدر، من أوصاف الله وربوبيته ما يناسب المطلوب، فإن فطر السماوات والأرض توسل إلى الله بهذا الوصف في الهداية للفطرة التي ابتدأ الخلق عليها، فذكر كونه فاطر السماوات والأرض، والمطلوب تعليم الحق، والتوفيق له، فذكر علمه سبحانه بالغيب والشهادة، وأن من هو بكل شيء عليم جدير أن يطلب منه عبده أن يعلمه، ويرشده ويهديه؛ وهو بمنزلة التوسل إلى الغني بغناه وسعة كرمه أن يعطي عبده شيئاً من ماله، والتوسل إلى الغفور بسعة مغفرته أن يغفر لعبده، وبعفوه أن يعفو عنه، وبرحمته أن يرحمه، ونظائر ذلك.
وذكر ربوبيته تعالى لجبريل وميكائيل وإسرافيل؛ وهذا – والله أعلم – لأن المطلوب هدى يحيا به القلب؛ وهؤلاء الثلاثة الأملاك، قد جعل الله تعالى على أيديهم أسباب حياة العباد:
أما جبريل: فهو صاحب الوحي الذي يوحيه الله إلى الأنبياء، وهو سبب للحياة الدنيا والآخرة.
وأما ميكائيل: فهو الموكل بالقطر، الذي به سبب حياة كل شيء.
وأما إسرافيل: فهو الذي ينفخ في الصور، فيحيي الله الموتى بنفخته؛ فإذا هم قيام لرب العالمين (14) .
فالتوسل إلى الله سبحانه بربوبية هذه الأرواح العظيمة الموكلة بالحياة، له تأثير عظيم في حصول المطلوب. والله المستعان